بدأت خطاى المتسارعة فى السير الوئيد بعدما اقتربت من البناية التى لم تكن تحمل اسماً.. كأن أديم الأرض الذى ألهبته أشعة شمس أكتوبر أخذت جاذبيته فى الازدياد شيئاً فشيئاً.. تشبث الأسفلت بنعلىّ وتصاعدت وتيرة نبضات قلبى.. ويلى.. ألم يتلاشَ ما أحدثته بى سنوات الزمن القامع؟ أتظل مهابة زى العسكر الميرى مترسبة فى قاع وجدانى وثنايا صدرى؟ من تحت عيون رجالات القوات الخاصة التى تحدجنى من خلف النظارات الشمسية، ومن بين سناكى الأسلحة الأتوماتيكية والعربات المدرعة، تسللت مستعيراً بعضاً من دفقات دماء شهداء الثورة الباسلة، التى وهبها أصحابها يوماً ليستعين بها مثلى عندما تهرب دماؤه فى مواجهة سيف السلطان وصولجانه. لم أكن أحتاج أن أسأل حتى أعرف أنه القائد.. نظرات عينيه الجائلة بين إخوانه فى التنظيم وبين حراسه المقيدين يديه فى السلاسل كانت تكفى.. كان لى نصيب من تلك النظرات «حادة ومزعجة»، اقتربت منه سائلاً: «تكاد تلتهم حراسك بنظراتك أو كأنها تلهبهم بسياط، بينما هى ذاتها تنم عن محب ودود وديع ومسالم عندما توجهها إلى إخوانك»، فقال: «ألم تسمع عن الولاء والبراء، أوالى من والى الله وأحبه فيه، وأبرأ من عادى الله وأكرهه فيه». كانت الغرفة باردة وساكنة.. كأن هواء التكييفات ثلج الجالسين على مقاعد النيابة الخيرزانية، فنكسوا جباههم الحزينة وتخشبت أطرافهم وتحولوا إلى عرائس من الشمع، وتراءى إلى مخيلتى شبح «سيد قطب» واقفاً فوق طبلية الإعدام، حتى إذا دوى صريرها وتهاوى الجسد النحيل فى بئر الموت وتأرجح فى حبل المشنقة، دبت فيهم الروح ونهضوا ليحملوا الكلاشينكوف يمطرون من حولهم بزخاته. انسكبت محبرته لتغرق أوراقه وأقلامه، وخطت مسارات من اللون الأحمر لتصنع بقعة متجلطة، وتتسع شيئاً فشيئاً لتصبح بركة من الدماء الفوارة. فى غرفة التحقيق سحب المحقق نفساً من سيجارته وقال له وهو يحاوره: «ما الذى يجعل من ضابط كفء مثلك قائداً لمجموعة من الإرهابيين؟»، تنهد ثم أجاب: «ذهبت إلى بلاد الأمريكان الشيطانية». عاد شبح «قطب» من جديد ليحلق فى سماء الغرفة ثم يهبط ليجلس على ذات المقعد الذى يجلس عليه «أبو العزم»، وددت لو سألته: «بالله عليك، هل رأيت الشيطان فارداً طيلسانه على تلك البلاد أم نزغتك نفسك فيها نزغاً؟». استرسل: «صدمت عندما وجدتهم يتمتعون ويأكلون كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، لا يجيدون سوى فن الإدارة الذى ينقصنا نحن، كم قتلوا منا وأذاقونا الويلات والهوان!». ربت على كتفه وخاطرى يسأل: «أتراك قاتلى يوماً أم تراك تعلق على عود مشنقة قبل أن تفعل؟»، كدت أصرخ حتى يزلزل الصدى أركان البناية المرعبة: «لماذا؟! ألم تكفِ أنهار دمائنا مذ ذبح عثمان، ورفعتم المصحف على ذؤابتى السيفين هاتفين: إن الحكم إلا لله؟»، رباه، متى يتوقف السيل؟