ما إن نظرت إليه بعيونها، حتى أخذت «البومة» التى تعتلى السطح، ترفرف بجناحيها، معلنة عن الأفول، وغارقة وسط السحب السوداء.. أخذ يحدج البناية زائغاً بحدقتيه، فى كل أركانها.. تذكر أيام صباه، ثم انتفضت جوانحه، ها نحن ذا عدنا أيتها الجماعة الخالدة، أنا حارسك الأمين، دونى ورفقائى تهوى الحصون ويقوض البنيان، سنرابط على ثغرك، ندافع عنك حتى الموت فى سبيلك، لقد وجدتكِ بعدما فقدتكِ، لكننى لن أدعكِ هذه المرة تضيعين.. أنا الحارس الأمين. ذات يوم من أيام شتاء عام 1944 ولد لمقاول البناء الميسور الحال الحاج إبراهيم عزت ولد أسماه «السيد محمود» وكانت هذه عادات من ينسبون أنفسهم إلى آل البيت، لكن ما إن بلغ محمود سن 4 سنوات حتى ذهب إلى حى السكاكينى فى العباسية، ليقيم مع جده لأمه. هناك تربى محمود على ثلاثية مختلفة عما كان عليه الحال فى منزل والده، لكنها ثلاثية متآلفة: جده الذى يصلى الفجر ويتلو القرآن فى خشوع، وصوت عذب ثم يضع على فمه ورقة كارتون حتى لا يتطاير الرذاذ من فمه على المصحف تقديساً له، ومعبد اليهود الذى كان يذهب إليه ليلهو فى أعراسهم، ودير طور سيناء الذى كان يطل على نافذة شرفته، فيشاهد الرهبان وهم يروون أشجارهم، وفى ذات البيت يعيش مع هذه الثلاثية أرمن وأقباط ويهود، وكانوا يتزاورون ويتهادون فى الأعياد والمناسبات، ويخرجون مبكراً لكى يسمعوا القرآن من فم جده الذى كانوا يزورونه عندما يمرض، لكن شيئاً جديداً طرأ على حياة الصغير فتأثر به، وظل مخزوناً فى وجدانه ليظل يبحث عنه حتى وَجَدَه فيما بعد. فى شارع محمد رفعت بالعباسية مرَّ الفتى أمام شعبة جماعة الإخوان المسلمين، فدخلها هو وأولاد أخواله، فشده اللعب فلها هو وهم، وأثناء لهوه كانت تتطاير إلى أذنه أصوات دعاة الجماعة، لم يفهم كثيراً مما يقال، لكنهم أثروا فى وجدانه، فذهب ليستمع، فرصده مسئولو الأشبال فى الجماعة، وتعرّفوا عليه، فأحبهم وارتبط بهم، وجلس يسمع للدعاة واقفاً على قدميه ساعات طويلة. ذهب محمود بعد أسبوع إلى ذات المكان لا ليلعب، بل ليستمع ويلتقى بمن أحبهم، لكنه لم يجد بُغيته.. كان عام 1954 قد أتى ومعه محنة للجماعة صدمت الجميع، فقد أصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم، لكن الفتى لم يعِ ما يحدث جيداً، فجل ما كان يسيطر عليه من خواطر أنه فقدَ من أحب، ولم يبق له إلا ذكريات ذلك اللقاء الذى سكن قلبه. انتزع عبدالناصر من حياة الفتى من أحبهم فى لحظة عاطفية شاعرية، فأبغضه واشتاق إليهم، وشعر بالغربة والوحشة لهم، ثم بدّله عبدالناصر بحياة لم يجد فيها حلاوة ما ذاقه فى شعبة الإخوان، فظل ساكناً فى انتظار من يحب. فى رحلة الانتظار، ظهر الحاج إبراهيم عزت ليطلب من زوجته القديمة وأولادها، الرحيل إلى مصر الجديدة بعدما تمكن من بناء عمارة سكنية، هناك فى وسط الحى الراقى الجديد الذى يضم خليطاً من أغنياء جدد، وبقايا باشوات وعائلات عريقة. ترك عزت بيت جده فى العباسية عام 60 ليقيم فى الحى الراقى الجديد، لكنه صدم فيما رأى.. نساء كاسيات عاريات تسير فى الشوارع ترتدى ما يسمى «الميكروجيب» وفتيان وفتيات يرقصون فى أماكن عامة لا هوية تجمعهم إلا حبهم لكرة القدم. لم يندمج مع المجتمع الجديد الطارئ ففقد توازنه، ولم يستطع أن يحصل على الدرجة الكافية لدخوله كلية الطب، فقرر أن يحسم أمره ويهرب من مجتمعه الجديد ويرجع إلى بيت جده ليعيد الثانوية العامة مرة أخرى، وانكب على دراسته متحصناً بصلاته بعيداً عن حبائل الشيطان. ظل عزت أسير المشهد الذى وجده فى شعبة الإخوان فى شارع محمد رفعت، وفى عام 62 كبّرت المجموعة، وقذفت الأقدار فى طريقهم بشاب جرىء ومتحمس، وهو السورى الحموى مروان حديد -الذى قاد معركة حماة ضد نظام الأسد فيما بعد- كان حديد من الإخوان المسلمين الذين أفلتوا من رقابة الأجهزة الأمنية المصرية، وكان عزت تواقاً للكتب الإسلامية، فأهداه حديد بعض كتب قطب ورسائل البنا فقرأها بنهم، فوجد فى رسائل البنا القواعد الكلية لرسالة الإسلام ولمهمة المسلمين، ووجد فى كلام قطب العاطفة الجياشة وحب الإسلام، فامتزجت عنده العاطفة بالأصول الشرعية، وأثرت عليه تأثيراً كبيراً. صنع مروان حديد من هذه المجموعة خلية دون أن يعلموا هم بذلك، وأطلق عليها فيما بعد خلية مصر الجديدة، وسلمهم إلى رأس التنظيم قبل أن يغادر مصر إلى سوريا. سلمهم إلى تاجر الغلال الدمياطى الشيخ عبدالفتاح إسماعيل.. اعتقد عزت أنه بلقائه حديد وإسماعيل قد وجد الجماعة التى يبحث عنها، لكنه اكتشف بعد ذلك أن هذا التنظيم ليس إخوانياً.. وفى 20 أغسطس، ألهبت سياط العسكر ظهر الفتى الغض المرفه، كما نهشت جسده الكلاب، ونام فى زنزانة خالية من كل شىء على صوت خرير الماء المتقطع، لكن أصعب لحظات حياته كانت لحظة إعدام سيد قطب. بعد وفاة الرئيس عبدالناصر جمعت الأجهزة الأمنية الإخوان من السجون المتفرقة، ووضعتهم فى ليمان طرة لإجراء عمليات استتابة لهم، وقاد هذه العمليات وقتها اللواء فؤاد علام، وشكّلت هذه فرصة للإخوان للالتقاء فى سجن واحد. نشط الحاج مصطفى مشهور فى هذه الفترة، واستطاع أن يجمع مجموعة كبيرة تجاوزت ال50 فرداً من الإخوان، وجمعهم فى رباط واحد، كان عزت من كبار هذه المجموعة، فقد أحب مشهور، وأعجب بتضحياته وجهاده فى السجن، ورأى فيه الجماعة التى يبحث عنها، وخرج الاثنان معا فى أوائل السبعينيات. فى الخارج بدأ مشهور فى بناء التنظيم الدولى ومعه عزت، لكن هناك من تحدث أن مشهور كان يبنى تنظيماً خاصاً موازياً لتنظيم التلمسانى الذى تمددت فيه قيادات السبعينيات الذين التفوا حوله.. وبانتهاء أحداث المنصة خلت الساحة لإخوان مصر، فانطلقوا فى ساحة شبه خالية من الجماعات الإسلامية تقريباً خلال فترة الثمانينيات؛ مما أتاح لهم فرصة عمل ذهبية تمكن خلالها فريق العمل بقسم الطلاب والمهن من التمدد بالجامعات، واكتساب مقاعد الاتحادات الطلابية بالكامل تقريباً، وكذلك مقاعد مجالس أندية أعضاء هيئة التدريس. وفى عام 1992، هاجم ضباط أمن الدولة مقر الشركة، ووقع فى يدهم كنز ثمين، عبارة عن كشوفات بأسماء الإخوان فى مصر وتراتبيتهم التنظيمية، ومعلومات مفصّلة عن الجماعة منذ خروجها من السجون وحتى تاريخ الهجوم على الشركة، وكانت «سلسبيل» قد أوكل إليها القيام بجمع معلومات تفصيلية حول جميع الإخوان، وتسجيلها فى كروت باسم كل عضو، كما قيل إنها صنّفت الإخوان دينياً تبعاً لمواصفات خاصة، لكن القضية برمتها لم تقدم للمحاكمة. بعد «سلسبيل» مباشرة أجريت انتخابات داخلية، قيل إن المايسترو فيها كان محمود عزت؛ حيث استطاع بعد التحكم فى مفاصل التنظيم أن يطيح بأشخاص غير مرغوب فيهم، كما استطاع أن يقوم بعملية إحلال وتجديد لعناصر موالية له، كما استطاع أن يخلق مراكز أخرى لعناصر جديدة داخل التنظيم. وبعد تولى مشهور فى عام 96، تمدد عزت داخل التنظيم، وكان قد استطاع الفوز فى انتخابات 95، وقُبض عليه فى اعتقالات مجلس الشورى، وحُكم عليه بخمس سنوات وخرج عام 2000. إنه أمين هذه الجماعة.. يذهب محمود عزت إلى شارع محمد رفعت بالعباسية لينظر إلى مقر شعبة الإخوان الذى ما زال كما هو لم يتغير، ويتذكر الماضى، ولسان حاله يقول: أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من التمكين، لن تضيعى منى هذه المرة، لن نعيد أخطاء الآباء، لقد وعدَنا الله بالنصر، إننا الدعوة الربانية، لقد وجدتكِ بعد ما فقدتُكِ، لكننى لن أدعكِ هذه المرة تضيعين.. أنا الحارس الأمين أيتها الجماعة الخالدة.