بعد أكثر من عام على العيش في ألمانيا لم استطع أن أشكل علاقات حقيقية مع الألمان، لم أعاني من صدمة ثقافية، ولم تصدمني طبيعة الحياة هنا، لكني أعيش ضمن سوريا ثانية، وهذا ليس الذي خططت له، فلماذا فشلت في الاندماج؟حول هذه الطاولة تجلس ألمانيا.. أدركت هذا اليوم.. وحول هذه الطاولة لا مكان لي أيضاً... بدأت صفي التدريبي الجديد كما أحب أن أسميه، في عملي الجديد لدى أهم تلفزيون ألماني ناطق بالعربية منذ شهرٍ تقريباً. في صفي أملك جهاز كومبيوتر وحساباً شخصياً وبريدا الكترونياً بعنوان المحطة. أملك كرسياً وأنال حصتي وربما أكثر من القهوة اليومية التي يحضرها زملائي في الصف كما أصر على تسميتهم. أشارك بالتدريبات اليومية. ورغم كرهي لل what's up كوسيلة تواصل إلا أنني متواجدة في المجموعة المخصصة لنا. يدعونني إلى كل مناسباتهم وحفلات أعياد ميلادهم التي كثرت خلال شهرٍ من بدء العمل. أجلس معهم على الطاولة نفسها في استراحة الغذاء. ويتقاسم بعضهم ما تبقى من وجبتي لعدم قدرتي على أكلها كلها لأسباب صحية. لدي كل حقوقي، عدا الاستماع للتدريب بلغةٍ غير الألمانية في كثيرٍ من الأحيان. كما أؤدي واجباتي الدراسية على أتم وجه. في حال قام أحدهم بترجمة المطلوب مني، أضحك على نكات رفاقي. وأحاول رمي الإطراءات لهم كلما سنحت لي الفرصة. منذ شهر وأنا أحاول أن أصنع لي حياةً في مدينةٍ جديدة. اضطررت للاغتراب إليها للمرة الثانية بسبب العمل. كان علي التخلص من المساعدات، والبدء بدفع الضرائب. علي أن أصبح مواطنة في أسرع وقت لأتمكن من زيارة وطني يوماً ما. في الصف يتوزع زملائي الاثنا عشر على يميني ويساري، حيث احتللت رأس الطاولة. يتوزعون دون أي ترتيب كل واحد منهم من مكان مختلف في ألمانيا، وهذا واضح من خلال نقاشاتهم. حتى في ألمانيا الناس لا يشبهون بعضهم، ويتأثرون ببيئاتهم. يمكنني أن أميّز بشكل واضح الذين قدموا من ألمانياالشرقية (سابقا) وفق التقسيمات القديمة، كما أن هناك نزعة رأسمالية غير مخفية ولا شعورية برأيي، لدى من هم من غرب ألمانيا. عدد كبير منهم من أصول مهاجرة مع أنه ولد في ألمانيا، لكن ذلك مصدر إغناء لخبرته وشخصيته، لا كخلفيتي المهاجرة التي تصبح أحياناً مصدر شفقة . بيننا أميركي وبريطانية، يتحدثان الألمانية ومرحب بهما بشكل طبيعي، إلا أنا، فلدي إحساس بأنني الغريبة بين الجميع. كل حديث بيني وبينهم يبدأ بكلمة واحدة "في سوريا" وينتهي أيضاً بتلك الكلمة. أحاول أن أخبرهم دائماً بأن ذلك يزعجني ويعيقني عن أن أقيم علاقات صحية معهم أسوة بزميلي الأمريكي والبريطانية، لكنني أفشل. أخبرت أحدهم مرة خلال الحفلة اليتيمة التي لبيت الدعوة إليها، حينها حاول أن يسألني وأنا نصف ثملة عن توزيع المجموعات المسلحة في سوري. أخبرته أني لا أهتم. أخبرته، أنني فتاةٌ مرحة وذكية. أخبرته أن لدي معلومات عن كثير من المواضيع واستطيع أن أناقش أي شيء غير موضوع بلادي، طلبت منه تجربة ذلك، بعد خمس دقائق انتهى هذا الحديث لالتفت لصديقي السوري الذي طلبت منه مرافقتي لعلمي بهذا المصير. أحب أن أكون جزءاً من نميمتهم على بعضهم، أتمنى لو أشاركهم ذلك، لكنهم يحولون الموضوع لشيء آخر عند قدومي. أجد صعوبة في التواصل معهم، أجد صعوبة في خلق علاقات حقيقية مع الناس من حولي وهو شيء لم اعتد عليه، ربما بسبب عامل اللغة، لكنهم جميعاً يتكلمون الإنكليزية بطلاقة. أحياناً لا يمكنني إخفاء كآبتي ولا عزلتي عنهم، أرى في عيونهم نظرة شفقة أو عدم اهتمام لتصبح عدم تواصل في النهاية من بعضهم. لكني مكتئبة، لا يمكنني إخفاء ذلك. لا أطلب الشفقة أطلب المشاركة، لا أتاجر بوضعي كسورية، بعضهم يواسيني بتذكيري بأني نلت فرصة العمر من خلال العمل بمكان كبير كهذا، لكن هل يجب أن أكون ممتنة أو شاكرة كل الوقت، هل يجب أن أقبل بفتات نظراتهم وكلماتهم وأحاديثهم معي كي أكون غير جاحدة، لا يعلمون أني كنت أعمل بمكان أهم، بأن لدي خبرة كبيرة لا أستطيع مشاركتها معهم بسبب اللغة أحياناً أو قلة صبري وعدم اكتراثي في كثير من الأحيان. أشعر بالازدراء من قبل الناس عندما أجيب عن سؤال: ما هو أكثر شيء أفضله بالحياة؟ بكلمة "لا أملك". أكون صادقة جداً، ربما كان يجب أن أكذب. أفضل من تلقي تلك النظرة وأنا أجيب بأني فقدت كثيراً فلا شيء مفضل لدي. يحاول البعض إخباري بنظرته "أوه.. أرجوك.. ليس قصة مأساةٍ أخرى.. مللنا الاستماع"، لكنني لا أطلب إشفاقاً بل مجرد جواب صادق لا يتوقع البعض عمقه الساعة التاسعة صباحاً قبل أن تجهز القهوة، وهذا ليس ذنبي. مضى على وجودي في ألمانيا أكثر من سنة، لم أندمج خلالها، مع أن لدي الكثير من الأصدقاء الألمان، وأتعلم اللغة وأفهم ما يقارب ال70 بالمئة مما يقال أمام. خلال العام الماضي حاولت إعادة بناء حياتي التي تركتها في سوريا مع سوريين جدد هنا، وهذا آخر ما كنت أريده. مع سوريين بعضهم لا يشبهني بشيء ومن المستحيل أن يكون خياري فيما لو كنت لا أزال هناك، حاولت بناء حياة بدل الغرق في الكآبة، لكن الألمان لم يكونوا ضمن دائرتي الأولى. صفي الجديد وضعني أمام الحقيقة بعريها التام، الاندماج كذبة، طالما أنهم سيعاملونني كضحية، وطالما أني لم أنس ما كنت عليه هناك، لا بل أذكره في كل جملة وأقارن بينه وبين الوضع هنا بشكل لا شعوري. طالما أنا أقول لهم: أنا في هذا المكان لا تخرجوني منه، وهذا دون إرادتي لشعوري بأني سلبت منه سلبا. لكنهم لا يعلمون أنهم لا يساعدونني من خلال تحقيق رغبتي في البقاء هناك، عليهم أن يجروني لأعيش هنا. لم التق بمن يريد بذل جهدٍ معي بعد، ألتقي بالفضوليين الذين يعززون شعوري بأني انتمي إلى هناك فقط، لكني أطمح الآن لأصدقاء حقيقيين، هل هذا صعب؟ّ! راما الجرمقاني