سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عم حسن «وزير ثقافة إمبابة»: 28 سنة أبيع المعرفة بنظام «اقرا النهارده وادفع بكرة»! نبيل فاروق «شريكى» فى كشك الثقافة.. وهو الذى أنقذنى من الموت ذات يوم فى معرض الكتاب
عم حسن، حدوتة مصرية، كائن فريد من نوعه فى هذا الزمن، فبينما يلهث زملاؤه أصحاب الأكشاك فى حى «إمبابة» الشعبى وراء حسابات والربح والخسارة، ويتاجرون فى السجائر والحلويات والبسكويت لضمان المكسب، اختار هو أن يفتح «كشك ثقافة» يبيع فيه الكتب والروايات والقصص، حتى إنه حاز -عن جدارة- لقب «وزير ثقافة إمبابة». وهو واحد من ذوى الاحتياجات الخاصة؛ فقد أصيب بمرض شلل الأطفال فى صغره، وعلى الرغم من ذلك تحدى إعاقته واستطاع أن يشق طريقه ليتخرج من «الكشك» الخاص به صحفيون وأطباء ومهندسون مشاهير كما يحكى بنفسه فى هذا الحوار. تبدأ حكاية عم حسن مع الحياة والثقافة كما يرويها لنا قائلا: «حكايتى مع الدنيا بدأت عند إصابتى مثل آلاف الصغار غيرى بشلل الأطفال، ذلك المرض الذى يحطم أحلام الآباء والأبناء، ومن ثم أدركت أن حياتى سوف تكون مختلفة عن الآخرين، وأن علىّ الاستعداد للمستقبل بجرعة كبيرة من الإيمان والقدرة على التحدى، وإلا لن يكون لى مكان وسط هذا العالم». ويضيف عم حسن: «حصلت على الإعدادية التى كانت كفيلة وقتها بإتقان القراءة ومعرفة مجمل فروع الثقافة، وأن أستطيع أن أحدد ماذا أقرأ وكيف ولماذا، ومن هنا بدأ عشقى للثقافة يزداد وطموحى فى أن تكون هدفى وهدف كل من حولى لدرجة أننى كنت أحث أصحابى على القراءة ونحن فى أوقات السمر بأن أرشح لهم كتابا جديدا أو فكرة ما نطرحها ونتباحث حول الكتب التى تناولتها، وهكذا. * هل كنت محروما من الكتب لدرجة أنك اخترت أن تكون بائع كتب، أم هو عشق متبادل؟ - (يضحك عم حسن، وهو يعود بذاكرته للوراء ويسترجع ذكرياته) أنا فعلا كنت محروما من الكتب ومن غيرها، ورغم الحرمان من متع كثيرة فإن الحرمان من الثقافة كان هو الشىء الأكثر إيلاما بالنسبة لى؛ لأنى كنت أجد فيها متعة كبرى، فأسافر فى دنيا الرحلات مع أنيس منصور، وأتمتع بمفردات اللغة الفاتنة مع طه حسين، وأختبر فكرى مع أرسين لوبين وأجاثا كريستى، وهذا هو ما جعلنى أحاول أن أفتح «طاقة نور ثقافية» لمن حولى. * وكيف فتحت «كشك ثقافة» بدلاً من بيع السلع المضمونة مثل السجائر والخردوات؟ - لا أخفيك سرا أننى حاولت أن أبدأ بهذه السلع المضمونة، خاصة بعد معاناة بناء الكشك ومصروفاته ونصائح الكثيرين وإصرار كل من حولى على أن تكون البداية «واقعية»، لكن ظل حلمى أن أكون «عم حسن بائع الكتب»، هو اللقب الذى كنت أحلم به، والحمد لله أثبتت الأيام أنه لا يصح إلا الصحيح، ويكفى أنه قد تخرج من هذا «الكشك» المئات من أصحاب الوظائف والمكانات الاجتماعية المرموقة، كنت والحمد لله من أسباب ثقافتهم وحبهم للمعرفة، وبالتالى كنت سببا فيما وصلوا إليه من مكانة. وأنا أشعر بسعادة غامرة عندما أكون جالسا فى الكشك وفجأة أجد أمامى رجلا محترما عليه علامات الفخامة والأبهة والشياكة والثقافة، يميل علىّ ويقبلنى وكأنى والده قائلا إنه «أحد تلاميذ هذا الكشك»، ومنهم من أصبح طبيبا مشهورا، ومنهم الصحفى والمهندس، ولا أنسى أبدا الموقف الذى هزنى بقوة حينما وقفت أمام هذا الكشك المسكين سيارة فارهة لا نراها كثيرا، ونزل منها رجل فى بداية الأربعينات وجرى علىّ يحتضننى ويقبل رأسى ويدى وتبعه نزولا من السيارة سيدة أجنبية، وتملكنى الذهول أنا وكل جيرانى على هذا المشهد العجيب، وحين سألته من هو علمت أنه كان طفلا من أبناء هذا الحى الفقير وبفضل الله أصبح طبيبا ناجحا يعيش فى أمريكا وتزوج من هذه السيدة المتواضعة التى تحدثت بالعربية «المكسرة» لتخبرنى أنها سمعت عنى كثيرا من زوجها وأنها كانت مشتاقة لرؤيتى، وأنه كان يظن أننى متُّ، وفى أول زيارة لمصر جاء إلى هنا فوجدنى حياً أُرزق، وهذا هو سر سعادته، أليس هذا سببا للفخر والسعادة أعظم من بيع علبة سجائر أو قطعة شوكولاتة؟ * ما حكاية إيجار الكتب بنظام «اقرا النهارده وادفع بكرة»؟ - الموضوع ببساطة أننا فى حى شعبى يحوى بين ربوعه الغنى جدا والفقير جدا، والاثنان يجتمعان عند باب هذا الكشك، وكلاهما يحلم بالعودة إلى بيته وفى يده الكتاب الذى يتمنى أن يحتضنه الليلة، خاصة الروايات البوليسية التى كانت تصدر مسلسلة وكان المراهقون يرتبطون بها لدرجة مذهلة، وينتظرون اليوم الذى أقول فيه لهم إن الجزء الجديد قد صدر، فيكون يوم عيد لهم. ومن هنا فتح الله علىّ بفكرة جديدة «اقرا النهارده وادفع بكرة»، وهذه الفكرة كانت عبارة عن تأجير الكتاب أو القصة لمن يريدها بمبلغ رمزى بسيط، مع ضمان أن يعود الكتاب إلى الكشك مرة أخرى وهو فى كامل هيئته وهيبته، وإلا فلا مكان للمهمل بيننا، وكنت أشترى من مكسب البيع الفورى للرواية واحدة أو اثنتين للإيجار عندما يصادف موعد صدور القصة الجديدة، وبالتالى أوفرها لمن برغب من محبى الثقافة بسعر زهيد هو مجرد «إيجار رمزى». * وما أكثر الكتب تأجيرا؟ - أدهم صبرى أو «رجل المستحيل» هو طبعا نجم النجوم بالنسبة للأجيال الجديدة من الشباب، وقد أجرت رواياته بعشرة صاغ لغاية لما وصلنا إلى جنيه ونصف الجنيه، بعد أن وصلت السلسلة إلى اللغز رقم ستين بعد المائة. وفى العموم «روايات الجيب» هى أكثر الكتب بيعا وتأجيرا، عندك مثلا «ملف المستقبل» و«المكتب رقم 19» وروايات العبقرى أحمد خالد توفيق «ما وراء الطبيعة»، وكلها أعمال بهرت أجيالا كثيرة، وكانوا ينتظرونها من الشهر إلى الشهر بشغف خرافى. * لو أتيحت لك فرصة مقابلة أبطال رواياتك أو مؤلفيها بمن تحب أن تلتقى؟ - أتمنى مقابلة العبقرى نبيل فاروق؛ فهذا الرجل العظيم كان يكتب 4 روايات كل شهر، كلها بنفس مستوى الروعة التى عهدناها فيه، وكثيرا ما كنت أتضاحك مع من حولى وأقول لهم إنه «شريكى فى الكشك» لأن أغلب القصص الموجودة عندى وعليها طلب كبير كانت تحمل توقيعه. ولأن الأرواح جنود مجندة تتعارف على بعضها، فقد وقع لى حادث غريب حينما كنت موجودا ذات مرة بمعرض الكتاب منذ سنوات بعيدة، حيث أنتظر هذا الحدث من السنة إلى السنة وكأنى طفل فى طريقه إلى الرحلة السنوية إلى مدينة الملاهى التى يعشقها، ووسط هذه السعادة البالغة داهمتنى آلام مبرحة فى ظهرى لدرجة أنى صرخت فيمن حولى طالبا المساعدة؛ لأن الألم كان فوق الاحتمال وبسببه تعرضت للإغماء، وبعد أن استعدت الوعى وجدت نفسى راقدا فى مستشفى مجاور لمنطقة المعرض، وهناك كانت المفاجأة حيث علمت أن من صرخ فى مسئولى المعرض ليتحركوا لنجدتى ومن طلب الإسعاف من هاتفه المحمول الذى كان نادرا وقتها ومن وقف بجانبى حتى تسلمتنى سيارة الإسعاف ونقلتنى للمستشفى هو الكاتب الكبير نبيل فاروق، الذى كان موجودا هناك يتفقد المعرض ويزور جناح «روايات مصرية للجيب» الذى كنت أقف بجواره وقتها، فأنا لم أكذب عندما قلت إنه «شريكى فى الكشك»! * قل لى يا عم حسن.. كيف ترى طريقة التعامل مع ذوى الإعاقة فى مصر؟ - للأسف، طريقة التعامل مع ذوى الاحتياجات الخاصة جريمة مكتملة الأركان يشارك فيها الجميع، الإعلام بصمته الرهيب فى حق وطموح وأحلام وواجبات ذوى الإعاقة لدرجة أنه يتعامل معهم وكأنهم سلعة غير مرغوب فيها ولن تعود عليه بالفائدة التى تعود عليه من المواد الإعلامية الأخرى، متناسيا دوره المقدس فى أنه حامى المهمشين وصوت من لا صوت لهم، كما يشارك السياسيون فى الجريمة بتجاهلهم أكثر من 10 ملايين مصرى لا يتذكرونهم إلا أيام الانتخابات، ولا أنسى الحكومات واحدة تلو الأخرى بما فيها وزارات التربية والتعليم والتخطيط والشئون الاجتماعية، الكل مشارك فى هذه الجريمة البشعة مكتملة الأركان. * بما أنك تطرقت إلى السياسة والحكومة.. ما رأيك بصراحة فى «الإخوان»؟ - هم متسرعون لدرجة الانتهازية وبلا خبرة ووعى، وهم كذلك من أول أيامهم لا ينظرون إلا للمكسب الحالى، ومش مهم بكرة، وهذه مشكلتهم الكبرى، بمجرد أن يصلوا إلى شىء لا يفكرون فى النجاح، بل يفكرون ماذا سيكسبون بعده.. طيب اضمن نجاحك هنا أولا، ثم ابحث عن غيره. * والرئيس محمد مرسى؟ - زيهم، لا يعرف ما يفعله، وخبرته السياسية ضعيفة، وبالتالى فإن شغله ومواقفه نتيجة طبيعية لخبرته القليلة. * وماذا عن المجلس القومى للإعاقة؟ - لا أعرفه، ولا يعرفنى. * بعد 28 سنة فى «كشك ثقافة».. ماذا حققت؟ - حققت كل شىء ممكن يحلم به الإنسان، وبفضل الله الكشك والكتب كانوا سبب زواجى، وخلفت وعندى الآن أطفال و4 حيطان مقفولين علىّ وعلى أولادى، كما أن لدى معارف وأحبابا وأصحابا كثيرين.