نجح الشعب المصرى فى ثمانية عشر يوماً فقط فى إنهاء عهد مبارك بمجرد أن أجمع على رأى واحد أن «ارحل» و«مش حنمشى.. هو يمشى»، وتم إنهاء ثلاثين عاماً قضاها رئيساً، وكان يخطط للترشح فى انتخابات 2011 الرئاسية وفيما بعد كان الدور على «الوريث». وكان الهدف من ثورة الشعب فى 25 يناير إسقاط نظام مبارك تماماً وسد الثغرات التى يمكن أن تنفذ منها عناصر ذلك النظام لإعادة إنتاجه فيما أطلق عليه «الثورة المضادة»، كما كان من أهداف الثورة تطهير البيئة الوطنية من آثار الاستبداد والفساد السياسى والاقتصادى ومعوقات التطور الديمقراطى. ولكن الأمور بعد تخلى الرئيس السابق عن منصبه لم تجرِ على هوى الثوار الذين قنعوا بالانتصار الساحق والسريع على رأس النظام البائد وظنوا أنهم على طريق الثورة سائرون فى حماية الشعب الذى أصدر نداءه الذى اهتزت لأصدائه جنبات «ميدان التحرير» ومصر كلها أن «ارحل» فرحل! إن نظام مبارك لم يسقط حتى الآن برغم انقضاء أكثر من سنتين على قيام الثورة، وانتهت المرحلة الانتقالية التى كانت الأمل فى القضاء على النظام الذى ثار الشعب من أجل إسقاطه ولكن للأسف لم يتحقق ذلك الأمل! ومع تباعد القوى الثورية عن المشهد السياسى فى أعقاب تخلى الرئيس السابق عن منصبه وعدم قدرتها فى تلك الفترة القصيرة على تكوين حزب أو أحزاب تتولى قيادة العمل الثورى لاستكمال تحقيق أهداف الثورة، وفى ضوء ضعف وتشرذم الأحزاب والقوى السياسية القديمة، خلا المشهد السياسى إلا من جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة ومن السلفيين وجماعات الإسلام السياسى الذين سارعوا إلى تأسيس أحزاب ذات مرجعيات دينية وتحالفوا مع الجماعة وحزبها ليسيطروا على المشهد السياسى ويركبوا موجة الثورة معلنين أنهم كانوا فى مقدمة الثوار فى ميدان التحرير! والقصة باتت معروفة للكافة، فقد كان هدف الجماعة وحزبها ومشايعيهم -وقد خلت الساحة السياسية إلا منهم- تحقيق أغلبية كاسحة فى انتخابات مجلس الشعب التى جرت فى نوفمبر 2011، والتى كانت جهودهم مركزة على إنجازها رغم أن التيار السياسى الغالب فى ذلك الوقت كان يطالب بالدستور أولا! ولما تحققت الأغلبية لحزب الحرية والعدالة وحزب النور فى مجلس الشعب الأول بعد الثورة، كانت آمال الشعب منعقدة على أن يباشر هذا المجلس دوراً تاريخياً فى تحقيق هدف الثورة الرئيسى «الشعب يريد إسقاط النظام». ولكن أداء المجلس جاء مخيباً لتطلعات المواطنين وثوار التحرير حيث انشغل بالدخول فى معارك مع حكومة الدكتور الجنزورى مهدداً بسحب الثقة منها رغم أنه لا يملك تلك السلطة التى جاء الإعلان الدستورى فى 30 مارس 2011 خلواً منها ومضت ستة أشهر تقريباً دون فاعلية أو أداء له قيمة فى مجال تطوير العمل الوطنى وتطهير مؤسسات الدولة من عناصر النظام القديم أو محاولة إثبات أنه بحق «مجلس شعب الثورة»، حتى صدر قرار المشير حسين طنطاوى بحله. ويكفى للاستدلال على تهافت أداء مجلس الشعب «الإخوانى» أن أستشهد بمقال للمستشار طارق البشرى نشره فى صحيفة «الشروق» بتاريخ 11 مايو 2012 جعل عنوانه «أخطاء الإخوان فى مائة يوم من عمر مجلس الشعب» عدد فيه مجموعة الأخطاء التى وقع فيها المجلس وفى مقدمتها صراعه غير المجدى مع حكومة د.الجنزورى، واهتمامه بتقليص اختصاصات المحكمة الدستورية العليا، وتركيزه على سياسة إقصاء القوى المدنية عند تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. وكان مما قاله المستشار البشرى بشأن تشكيل تلك الجمعية: «وجاءت النتيجة أن ضربت الجمعية التأسيسية المشكلة وفشل تشكيلها، وجاءت عبرة هذا الدرس أن الجماعة المسيطرة على مجلس الشعب التى لا تملك أكثر من 47٪ من مقاعده بالغت فى تقدير قوتها إزاء قوى سياسية أخرى ذات وجود ظاهر فى أجهزة الدولة والإعلام والنخب، وطمحت هذه الجماعة فى بلوغ ما لا تستحقه ولا تستطيع السيطرة عليه، وهو جهاز الدولة ففقدت ما تستحقه، وهو تشكيل الجمعية التأسيسية». وجاء انتخاب مرشح حزب الحرية والعدالة والأصل أنه مرشح الجماعة رئيساً للجمهورية على خلفية رفض ملايين الناخبين التصويت لمنافسه الفريق أحمد شفيق تجنباً لاحتمال أن يعيد -أى شفيق- إنتاج نظام مبارك الاستبدادى وخوفاً من استمرار «حكم العسكر»، فإذا بالرئيس مرسى وقد أثبت أنه الأكثر محافظة على نظام مبارك والأقدر فى ممارسة كل أساليب ذلك النظام القائم على إقصاء القوى الوطنية والثورية. ونجح الرئيس «المنتخب» منذ توليه منصبه الرئاسى فى إنشاء سجل حافل من القرارات غير المدروسة والإعلانات «غير الدستورية»، والتغول على السلطة القضائية، وتحصين قراراته ضد الطعن عليها أمام القضاء، وعزل النائب العام السابق وهو غير قابل للعزل والانفراد بتعيين النائب العام الحالى دون مراجعة المجلس الأعلى للقضاء كما يقضى بذلك قانون السلطة القضائية! وعمل نظام الحكم الجديد على ترسيخ وتوطيد أركان النظام القديم الذى ثار الشعب من أجل إسقاطه؛ إذ بدلاً من إنهاء حصر الشهداء والمصابين والمفقودين من المواطنين فى أحداث ثورة 25 يناير 2011 وتكريمهم وتعويض أسرهم وتخليد ذكرى الشهداء، أنتج نظام الحكم الجديد للرئيس «المنتخب» مزيداً من الشهداء والمصابين فى أحداث «محمد محمود 2» ومحيط قصر الاتحادية ومحيط كوبرى قصر النيل وميدان سيمون بوليفار، وفى بورسعيد والغربية والإسكندرية، وأخيراً ميدان النافورة بالمقطم فى محيط «مكتب الإرشاد». كما لم تتم إعادة هيكلة وزارة الداخلية، بل توسع الحكم الجديد فى استخدام القوة المفرطة لأفراد الداخلية لمواجهة الشعب الثائر، وتم استبدال بوزير الداخلية السابق الذى نأى بنفسه وقواته عن الانحياز للفصيل الحاكم الوزير الحالى الذى بالغ فى تعريض أفراد الشعب للقنابل المسيلة للدموع وواجه المتظاهرين السلميين بوابل من مقذوفات «الخرطوش»، حتى إن جنائز شهداء بورسعيد الباسلة لم تسلم من الاعتداء عليها! وتناسى نظام الحكم الجديد القديم فى الحقيقة التحقيق فى كافة حالات ووقائع الفساد السياسى وعمليات تزوير الانتخابات، واكتفى بإصدار قانون العزل السياسى ونص عليه فى الدستور الجديد لمنع أشخاص بعينهم من المنافسة فى المجال السياسى. كما تناسى نظام الحكم الجديد القديم فى الحقيقة إعادة تشكيل المجالس المحلية وتجاهل فى دستوره الجديد مبدأ انتخاب المحافظين والقيادات المحلية وهو ما طالب به البرنامج الرئاسى للدكتور مرسى وعمد إلى تعيين رجال الجماعة فى مناصب المحافظين ووزير التنمية المحلية القائم على شئون إدارة الحكم والمحلى. ورغماً عن حكم المحكمة الإدارية العليا بحل الحزب الوطنى الديمقراطى ومصادرة أمواله ومقاره وإعادتها إلى الدولة، فقد تناسى نظام الحكم الجديد القديم فى الحقيقة أن ذلك الحزب كان من أركان الفساد فى نظام مبارك وأعاد إنتاجه فى هيئة «حزب الحرية والعدالة» ليواصل من خلاله سياساته فى إقصاء المخالفين فى الرأى والمعارضين لسياسات الحكم، وتمكين أعضائه من السيطرة على كل مؤسسات الدولة، والانفراد بالتشريع عن طريق مجلس الشورى غير المؤهل، وتزيين كل قرارات الرئيس بالحق أو بالباطل. بل وزاد الحكم الجديد بالاستعانة برموز من رجال أعمال النظام القديم للمشاركة فى لقاءات رئيس الجمهورية الخارجية، كما كان شأن الرئيس «المخلوع»! وكما كان الحال فى النظام السابق، استمرت ممارسات التضييق على الصحفيين والإعلاميين، وزادت «الدولة الجديدة» بالإسراف فى قرارات «الضبط والإحضار» للمطلوبين للتحقيق. واستمرت سياسة «العناد» التى مارسها الرئيس السابق وزاد عليها رئيس الجمهورية بالإصرار على مجافاة أحكام القضاء والتهديد بالتخلص ممن يطلق عليهم «أصابع» الإفساد وهو لا يسميهم، وإسراف أهل الحكم الجديد فى الترويج ليلاً ونهاراً لفكرة «المؤامرة» التى يتعرضون لها. وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد عاد الشعب يطالب «بإسقاط النظام» وينادى «الشعب والجيش إيد واحدة»! ولك الله يا مصر!