هذا مقال إسقاطى يسرد نصفه الأول وقائع تاريخية ثابتة (انظر مثلاً: «الطاغية نيرون سنوات الهرطقة والمحرقة»، محمد عصمت، دار مشارق، الطبعة الأولى 2009) ذكّرت الكاتب بها مجريات الأحداث فى مصر فى الوقت الراهن. ويبدأ القسم الثانى من المقال بإعطاء بعض المفاتيح التى تربط بين التاريخ والحاضر المصرى، وينتهى المقال بإشارات لسمات المشهد السياسى فى مصر تصل بين قسميه وتوثق زعم العنوان. فى بداية حكمه، كان «نيرون» مجرد إمبراطور اسمى؛ لصغر سنه، ولأن أمه «أغربينيا» ظلت تتحكم فى كل شىء بنفوذها. عهدت «أغربينيا» مهمة تربية وتنشئة «نيرون» إلى اثنين من أكثر المخلصين لشخصها، «سينيك» الفيلسوف المفوه الذى وعدته بأن يصبح وزيراً للدولة، و«بوروس» الذى وعدته بأن يكون قائداً للجيش. وبفضل خطب «سينيك» الحماسية وتأييد «بوروس» ضمان الجيش معه تم تنصيب «نيرون»، وعمره 16 سنة فقط، إمبراطوراً، وتناسى الجميع «بريتانيكوس» الوريث الشرعى للحكم. فشل «نيرون» فى الساحة السياسية والعسكرية، وسيطرت عليه فكرة أنه كان بارعاً فى الغناء والتمثيل. فكان يخرج إلى اليونان ويطوف مدنها يحصد الجوائز فى مجال التمثيل والغناء. جوائز لا تجرؤ لجان تحكيمها على أن تنتقده أو تعطى الجائزة الأولى لغيره فى كل المجالات التى يدخل فيها. أما أشهر جرائمه على الإطلاق فكان حريق روما الشهير سنة 64 م، حيث راوده خياله على أن يعيد بناء روما، وبدأت النيران من القاعدة الخشبية للسيرك الكبير، حيث شبت فيها النيران وانتشرت بشدة لمدة أسبوع فى أنحاء روما، والتهمت النيران عشرة أحياء من جملة أنحاء المدينة الأربعة عشر، وبينما كانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق، وفى وسط صراخ الضحايا، كان نيرون جالساً فى برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذى خلب لبه وبيده آلة الطرب يغنى أشعار هوميروس التى يصف فيها حريق طروادة. وهلك فى هذا الحريق آلاف من سكان روما، واتجهت أصابع اتهام الشعب والسياسيين تشير إليه على أنه هو المتسبب فى هذا الحريق المتعمد، وتهامس أهل روما بالأقاويل عليه، وتعالت كلماتهم، وتزايدت كراهية الشعب نحوه، وأصبح يحتاج إلى كبش فداء يضعه متّهَماً أمام الشعب، وكان أمامه اختيار؛ إما اليهود أو المسيحية الحديثة فى روما، ولكن كان اليهود تحت حماية بوبياسبينا، إحدى زوجات نيرون، فألصق التهمة بالمسيحيين، وبدأ يلهى الشعب فى القبض على المسيحيين واضطهادهم وسفك دمائهم بتقديمهم للوحوش الكاسرة أو حرقهم بالنيران أمام أهل روما فى الستاديوم وفى جميع أنحاء الإمبراطورية، حتى إن مؤهلات الولاة الذين كانوا يتولون الأقاليم كانت هى مدى قسوتهم فى قتل المسيحيين، وسيق أفواج من المسيحيين لإشباع رغبة الجماهير فى رؤية الدماء، وعاش المسيحيون فى سراديب تحت الأرض وفى الكهوف. وفى النهاية، لم تختلف نهايته كثيراً عن غيره ممن سبقوه. فبعد المذابح والحرائق التى أشعل بها روما، انصرف إلى اليونان ليمارس هوايته فى الغناء والرقص والتمثيل. وفى هذه الأثناء قامت ثورة، ومع تزايد وتيرة الثورة وانحسار وهزيمة «نيرون» وفشله فى إدارة الأزمة انصرف عنه أصدقاؤه وحاشيته، ولم يجد بداً من أن يهرب من قصره إلى كوخ بعيد لأحد خدامه الذين بقوا معه. وهناك كان يبكى كثيراً على ما وصل إليه، ويتذكر أمه، وقال إنها هى من جلبت عليه اللعنة. وظل مختبئاً حتى شعر بأصوات سنابك الجنود تحوم حول المكان، فما كان منه إلا أنه قرر أن يقتل نفسه، وبعد محاولات كثيرة فشلت بسبب خوفه من الموت، قتل نفسه ومات الطاغية الذى أرهق روما بمجونه وجنونه. (2) عندما يُسقط شخص سرداً تاريخياً على واقع ما لا توجد مفاتيح قاطعة لرموز الإسقاط، فهى تتوقف على البنية العقلية والمعرفية للشخص، ولذلك فإن المفاتيح المعطاة هنا ليست إلا اقتراحات من الكاتب. لا أظن القارئ بحاجة لفك رمز نيرون، وقد وثّقنا فى مقال سابق مبررات الحكم بظلمه، وكيف ألجأه للاحتماء بحراسة أمنية مشددة طول الوقت. وأقترح أن ترمز «أغربينيا» لجماعة الإخوان المتأسلمين، وعندى أن «بريتانيكوس» يرمز إلى شعب مصر، ويرمز «المسيحيون» إلى النخب المصرية المستنيرة والمثقفة. والقيثارة ترمز عندى إلى مقاليد السلطة التى سيتبين لنيرون المصرى، فى يوم ما ليس ببعيد، أنها ليست إلا «سلطانية الفول» التى ظنها تاج «الجزيرة» وفق حكاية التراث الشعبى المصرى الشهيرة. وأترك بقية الرموز والعِبَر لفطنة القارئ. ولننظر الآن فى أحوال مصر فى الوقت الراهن. - لقد دقت ساعتهم، وهم يلفظون آخر أنفاس سلطتهم، وهم يعلمون. لا يغرنك صيحات وأفعال التمسك بالسلطة والحرص على اقتناص المزيد من مماسكها لآخر لحظة. إنها مجرد «صحوة الموت» كارتجافات الدجاجة الذبيحة بعد ذبحها. وبلا تفاخر، أؤكد أننى استعملت التشبيه ذاته على نظام محمد حسنى مبارك قبل تنحيه بأسابيع، فهل يعيد التاريخ نفسه؟ صحيح، قد يستغرق الأمر وقتاً يُبتلى فيه الشعب الطيب بمزيد من الشقاء والمعاناة، ولكن عندما تحين الساعة فلن يستطيعون لها تأخيراً. وعندما يسقط حكمهم سيتنفس الشعب الصعداء، ولن يجدوا إلا أنفسهم ليلوموا، فلقد تملكتهم شهوة السلطة حتى ضيّعوا الدين والدنيا. ضيعوا الدين بمعصية الخالق بالخداع والنفاق حتى يصلوا للسلطة وبمزيد من المخادعة وبالظلم الفاجر حين اقتنصوها. وضيعوا الدنيا بالخطايا التى ارتكبوا وهم فى السلطة فأغضبوا ليس فقط النخب وعامة الشعب كليهما، بل أغضبوا من كانوا يُفترض أن يكونوا حلفاءهم من تيار الإسلام السياسى أيضاً فتفتت التيار وتراجع التأييد الشعبى له، خاصة فصيل الإخوان المخادعين. وهكذا فإن فشل الإخوان المتأسلمين قد يقضى على مستقبل تيار الإسلام السياسى بكامله، وليس فقط فصيل الإخوان. ووقتها لن يكون بإمكانهم الادعاء بأنهم لم يُجرّبوا فى الحكم، فقد سنحت لهم الفرصة وضيعوها بخرَقٍ نادر المثال. والبشارة الدالة على هذا المستقبل المظلم أتت من الهزيمة القاسية التى مُنى بها الإخوان المخادعون فى انتخابات اتحادات الطلبة الأخيرة بعد أن كانوا يحصدون أغلبيتها بسهولة فى الماضى، فهذه هى تنبؤات اختيارات الكتلة التصويتية فى المستقبل. وهذا جزاء عادل على الخراب المستشرى الذى جرّوه على البلاد فى فترة حكمهم القصيرة. داخلياً، يكتوى الشعب بالفقر والغلاء الفاحش باطراد، وتجتاح مصر بدايات للعصيان المدنى تمتد رويداً إلى جميع أنحاء البلاد ومؤسسات الدولة. والدولة المصرية بجميع مكوناتها تنهار فى ظل سلطة منفصلة عن الواقع وحكومة عنين قليلة الحول والحيلة. فقانون الانتخابات الذى أصدره الرئيس مهدد بالبطلان بسبب التعجل وانعدام الكفاءة فى الرئاسة، ومع ذلك أصدر الرئيس دعوة المواطنين للانتخاب، ما دعا القضاء إلى إبطال قرار الرئيس بالدعوة لانتخابات مجلس النواب ويتعاظم عصيان قوات من الشرطة لرئاساتها، وتمتنع عن تأمين منازل الرئيس ورئيس الوزراء، ولا يجد جهابذة السلطة حلاً إلا بمحاولة رشوتهم برفع مرتباتهم. هذا نظام حكم يحرق المراحل فى الانهيار نحو هاوية سحيقة. ويكفى أن نذكر أن انسحاب الشرطة من مهامها عند نهاية نظام مبارك لم يحدث إلا قرب الفصل الختامى بتنحى الطاغية. أما فى حكم الإخوان المتأسلمين فقد سبق انسحاب الشرطة الانهيار الختامى احتجاجاً على ما يعده كثيرون، داخل الشرطة وخارجها، سعى الإخوان المتأسلمين لوقيعة نهائية بين الشعب وشرطته حتى ينفسح المجال لميليشيات الإسلام السياسى للسيطرة على البلد. وفى مؤشر آخر على انهيار الدولة المصرية تتقدم جماعات إسلامية لتنظيم الأمن بدلاً من الشرطة، وهو ليس إلا إعلاناً لبداية عصر الميليشيات الطائفية ومقدمة لتقسيم مصر. وتتكاثر توكيلات من الشعب لتفويض وزير الدفاع وعودة الجيش لإدارة شئون البلاد، بدلاً من الرئيس المنتخب، على الرغم من الأخطاء الضخمة التى ارتكبها المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى حكم المرحلة الانتقالية، ما يدل على عظيم ضيق الشعب بحكم سلطة الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المتأسلمين، وبأن الطلب من الجيش فى جوهره كره لاستمرارهم فى الحكم أكثر منه رغبة فى الحكم العسكرى. وفى سد شرايين رئيسية من شوارع وسط القاهرة بالحواجز الخرسانية القميئة، ناهيك عن القبح الفج، علامة على تقطيع أوصال المدينة العظيمة وإهدار قيمتها. ولا أدرى ماذا يجعل من مبنى وزارة الداخلية قدس الأقداس الذى يجب حمايته بأى ثمن ولو بنشر القبح فى وسط القاهرة، فليلقوه فى الصحراء، لعل الحرارة والجفاف يقضيان على جراثيم البطش والفساد فيه. وليس حال الحكم أفضل على الصعيد الخارجى. ففى اجتماع وزير الخارجية الأمريكى بكل من وزير الدفاع ورئيس المخابرات منفردين فى غياب الرئيس الحاكم، دليل آخر على أن الإدارة الأمريكية لم تعد ترى فى سلطة الإخوان الطرف الوحيد الذى يجب التعامل معه فى الشأن المصرى. أى أن الإخوان المخادعين على خطر من خسارة حليفهم الخارجى الأساسى الذى صار يعرف أنه يتعين عليه أن يصل جسوراً مع قوى أخرى فى مصر. تماماً كما وصل الجسور معهم منذ العام 2003 فى ظل تحالف الإدارة الأمريكية مع النظام الذى قامت الثورة لإسقاطه ولم تفلح بعد بسبب اقتناص الإخوان المتأسلمين للسلطة وحمايتهم لنظام الفساد والاستبداد. كذلك امتد التحفظ على التعامل مع السلطة القائمة إلى كثير من الأطراف الخارجية المهمة. الإدارة الأمريكية ومجلسها التشريعى والاتحاد الأوربى تحفظت كلها على تقديم معونات لمصر، وصندوق النقد الدولى يجر رجليه فى إجراءات القرض الذى تتحرق السلطة للحصول عليه، وسويسرا تحفظت على إعادة الأموال المنهوبة لمصر ما استمر التأزم السياسى وانهيار الدولة. ولم يكن هذا ليُهم لو كانت السلطة الحاكمة غير تابعة ولديها مشروع وطنى مستقل للنهضة ولو باستجلاب عداء القوى المهيمنة فى العالم كما فعل جمال عبدالناصر ببناء السد العالى. ولكن سلطة تمد أيديها للاستجداء من العدو قبل الصديق لا تتحمل غضب المحسنين إليها، خاصة لو كان المحسنون على حق، فالسلطة القائمة فعلاً فاشلة، مستبدة وظالمة، وتقوم على وجه الخصوص باقتراف انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان يومياً. وعلى الرغم من الأزمة المشتعلة الممسكة بخناق الوطن، لا يجد الرئيس الحاكم وقتاً للاجتماع بالقوى الشعبية والوطنية لنزع فتيل الأزمة، وإنما يعقد مجلس حرب على الشعب برئاسته وعضوية وزير داخليته ومديرى الأمن فى المحافظات. هذه علامات دالة على قرب نهاية طاغية ونظام حكم تسلطى باغ! ومع ذلك فالسلطة المخدوعة والمخادعة تتظاهر بأن كل شىء على ما يرام. محمد مرسى وجماعته لا يأبهون، كما كان نيرون يشاهد روما تحترق بينما هو يعزف على قيثارته، ولا يحركون ساكناً.