كان أبوجعفر المنصور من أهم الحكام العباسيين وكان أخطر ما واجهه على الإطلاق جماعة اعتبرته «إلهاً» (وحاشا لله أن يكون)، وأنه هو من يطعمهم ويسقيهم، بل تمردت عليه وحاولت قتله لما رفض أن يعلن ألوهيته! الجماعة تسمى «الراوندية» وتنسب إلى قرية «راوند» القريبة من أصفهان.. وقد اتجه ستمائة شخص منهم نحو عاصمة الخلافة العباسية فى اليوم الذى سمى: «يوم الهاشمية» وهى قرية قريبة من الكوفة كان فيها قصره، وأعلنوا ثورة عارمة على المنصور، الذى لم يقرهم على أفكارهم، وطالبهم بالرجوع عنها، مؤكداً أنه بشر وعبد من عباد الله. ووقعت أحداث يوم الهاشمية عام 137 للهجرة. ووقعت معركة حقيقية شارك فيها أبوجعفر المنصور بنفسه وتذكرها بعد سنوات، مؤكداً أن الله نجاه فى هذ اليوم برحمته، وكان الموت يحيط به من كل جانب. وبدأت وقائع «يوم الهاشمية» بأن أتوا قصر المنصور وطافوا به فقبض على مائتين من كبارهم وحبسهم، فغضب الباقون وحفوا بنعش وحملوا هيئة جنازة، ثم مروا بالسجن فشدوا على الناس وفتحوا السجن وأخرجوا أصحابهم وقصدوا المنصور فى ستمائة مقاتل فأغلقوا باب البلدة وحاربهم العسكر ثم «وضعوا السيف فيهم» هكذا يصف المؤرخون الواقعة. والعبرة هنا أهم من الواقعة، فالحاكم العباسى كان حريصاً على مواجهة من يغالون فى شخصه إلى حد قتالهم وقتلهم لوصولهم فى المغالاة إلى حد التأليه. وقبل أبى جعفر المنصور كان خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من المغالاة فيه، وله فى ذلك أحاديث كثيرة. فما بال إسلاميين يستحسنون مغالاة بعض أتباعهم فيهم وطاعتهم إياهم طاعة عمياء؟ وهل حاول بعض هؤلاء أن يتصور المآل «المنيّل» الذى سيؤول إليه احتفاؤهم بهؤلاء المغالين؟ وبخاصة من يرتكبون خطيئة الترحيب بسلوكيات طائشة لا تختلف كثيراً عن محاولة الراوندية اغتيال أبى جعفر المنصور سواء كان ذلك بزعم الدفاع عن القاطن فى «قصر الاتحادية» أو بوهم ردع ما يسمونه: «الإعلام المتحالف مع الشيطان»، بحصار مدينة الإنتاج الإعلامى. ولما كان الشىء بالشىء يذكر، فإن هذه الظاهرة التى أخرجها للعلن مناخ الحرية الذى أعقب ثورة الخامس والعشرين من يناير يفرض علينا - بالقدر نفسه - أن نسهم فى دوام هذا المناخ، ولا شىء يقتل الحرية مثل المغالاة، سواء كانت مغالاة فى استخدامها أو المغالاة فى تقييدها. وقد فوجئت عندما قال لى أحد أهم القيادات التاريخية لجماعة الجهاد إن بعض الأنصار الأشد حماساً لحازم صلاح أبوإسماعيل هم من «جماعة الفرماوية». وهم أتباع شخص اسمه على الفرماوى، ويؤمنون بشيئين فى غاية الغرابة، أولهما وجود «نبوة عامة» مخصصة للبشر، واختص الله بها أفراد الجماعة وهم بالتالى جميعاً «أنبياء»..... ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وعندما تستشرى فى الحركة الإسلامية أوبئة «تقديس» المشايخ والعلماء والدعاة (وضمن ذلك تقديس مرشد الإخوان) وصولاً إلى طاعتهم فى ما حدث أمام قصر الاتحادية وما حدث أمام مدينة الإنتاج الإعلامى، فإننا نصبح أمام «باطنية جديدة» هى الأولى من نوعها فى تاريخ المسلمين، يصبح فيها «الحسن بن الصباح» شيخ «حركة الحشاشين» الإرهابية مثلاً أعلى ونموذجاً ويحتذى. وإذا كان ذلك كذلك، فبإمكاننا أن نفهم أن الدعوات «المنحرفة» التى يطلقها كثير من أصحاب اللحى من مختلف المشارب يهددون فيها بمواجهات وشهداء بالملايين وخروج على الرئيس بالسلاح وإقامة حد الحرابة على المعارضين، كل هذا انعكاس لانحراف رهيب فى الفكر لم تظهر ثمرته المُرة إلا بزوال الحظر على جماعات وحركات، ربحت الكثير جداً من التعاطف لسنوات لكونهم «ضحايا»، فإذا بكثير منهم بمجرد حصولهم على حريتهم، يتحولون إلى «حشاشين جدد» لا يتوقفون عن التهديد بسفك الدماء باسم «المشروع الإسلامى»! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.