هناك أكثر من مائة سبب وسبب تدفع جبهة الإنقاذ لمقاطعة الانتخابات، وكلها مقنعة، لكن فى المقابل هناك عدد أقل من الأسباب تشجع على رفض المقاطعة وخوض الانتخابات، وأنا شخصياً مقتنع بها. كنت مع مقاطعة الاستفتاء على الدستور، لكننى شاركت التزاماً بقاعدة السمع والطاعة لجبهة الإنقاذ، وأظن أن موقفها كان سليماً، حيث كشفت نتائج الاستفتاء عن تراجع تأثير الإخوان والسلفيين فى الشارع، وقدرة الجبهة وشباب الثورة على الحشد الانتخابى فى المدن، والأهم تفعيل مشاركة المواطنين الذين لا يشاركون فى المظاهرات والمليونيات لكنهم مع الثورة ومع أفكار ومواقف جبهة الإنقاذ. فى الاستفتاء اختبرت جبهة الإنقاذ قوتها وقدرتها على الحشد أمام صناديق الاقتراع، وتعرفت على بعض وسائل الإخوان والحكومة فى التزوير، وبدأت تستعد للانتخابات البرلمانية فى وقت تلقى فيه الأزمة الاقتصادية بآثار مدمرة على الوطن وعلى شعبية الإخوان والسلفيين وفرص نجاحهم فى الانتخابات، خاصة أن أخطاءهم السياسية والأخلاقية تطعن فى صورتهم المثالية واستقامتهم وقدرتهم على حل مشاكل الناس، انهارت هذه الصورة التى نجحوا فى بيعها للمصريين فى الانتخابات البرلمانية. جبهة الإنقاذ وشباب الثورة يقاطعون فى لحظة تراجع الإخوان والسلفيين وتقدم المعارضة، وتأتى المقاطعة من دون بدائل واضحة سوى الاستمرار فى المقاومة السلمية للأخونة كالتظاهر والعصيان المدنى، وهى وغيرها من الوسائل ثبت أنها تختلط ببعض مظاهر العنف ولا تستطيع جبهة الإنقاذ السيطرة عليها، ما يباعد بين قطاعات جماهيرية واسعة (شرائح الطبقة الوسطى) وبين المظاهرات والوقفات الاحتجاجية. من ناحية أخرى لم تنضج الظروف الموضوعية لإنجاح عصيان مدنى شامل على مستوى الوطن، وليست بورسعيد سوى حالة خاصة تعبر عن التكوين التاريخى والسمات الشخصية «للبورسعيدية» فى تفاعلهم مع مذبحة سجن بورسعيد. وأعتقد أن مقاطعة الانتخابات لا تساعد فى إنضاج الظروف الموضوعية للعصيان المدنى أو استكمال أهداف الثورة لأن المقاطعة تعنى دعوة ملايين المصريين للانسحاب من المشاركة السياسية، بعد أن أبعدهم عن المظاهرات وميادين الثورة تشدد وعنف بعض الجماعات الثورية التى استعارت من دون أن تدرى وسائل البلطجية فى العمل السياسى. وأتوقف هنا عند مسلسل الاستعارات فى الحياة السياسية، حيت استعارت جبهة الإنقاذ أسلوبها القديم فى التعامل مع نظام مبارك وهو الشجب والإدانة والمقاطعة، بينما استعار الرئيس وجماعته أسلوب نظام مبارك فى الهيمنة وتهميش واستبعاد المعارضة واستصغار تأثيرها، أيضاً استعار شباب الثورة -وإلى حد ما جبهة الإنقاذ- تجربة ثورة يناير بمعنى استنساخ نموذج الثورة أو الحلم بها. هذه الاستعارة تؤكد فقر الخيال السياسى للنخبة وعدم قدرتها على التعلم والاستفادة من درس التاريخ، فمواقف كل الأطراف تقريبا تعيد إنتاج نفسها أو الماضى القريب من دون تجديد، وهى مواقف عاجزة تؤدى إلى أخطاء وتناقضات تدمر الوطن، فالرئيس وحكومته يتوهمون القدرة على إسكات مقاومة الشعب وتمرير مخطط الأخونة والتمكين داخلياً وخارجياً، والمعارضة تناقض نفسها عندما تدعو للمقاطعة وتطالب الجيش بالتدخل والانقلاب على الديمقراطية، بل إن ثمة رهاناً أو حلماً أخطر لدى بعض أطراف المعارضة يتعلق بالضغط الأمريكى على الجيش للتدخل، أو على الأقل الضغط على الإخوان للتراجع، فالمقاطعة -وفق هذا الحلم الزائف- تسقط عن نظام الرئيس وجماعته الشرعية وتكشف عزلته عن الشعب، وبالتالى يسقط الرهان الأمريكى على الإخوان باعتبارهم القوة السياسية المنظمة التى تضمن الاستقرار وأمن إسرائيل عبر ضمان أمن سيناء. لكن قناعتى أن الشارع والفعل السياسى الانتخابى أو الاحتجاجى هو الكفيل بإنجاح أو إفشال كل الحسابات والرهانات الداخلية والخارجية، ورسالتى للمعارضة أن تشارك فى الانتخابات وتخوض التجربة بعد أن تمارس كل أنواع الضغط من أجل ضمان نزاهة الانتخابات، وإذا لم يستجب النظام -وهو الاحتمال الأرجح- فإنه لا مفر من خوض التجربة والتصدى للتزوير وفضحه، ولا بد من الرهان على التغيير الذى أحدثته الثورة فى وعى المصريين ورغبتهم فى حماية الديمقراطية الناشئة ونزاهة الانتخابات، وبالتالى خوض الانتخابات وعدم ترك الساحة للإخوان والسلفيين، بل العمل بين الناس وطرح أفكار وبرامج بديلة عن سياسات الإخوان ومشروعاتهم الكارثية، ولا شك أن المشاركة فى الانتخابات لا تعنى الاعتراف بنزاهتها أو قبول نتائجها، فالعبرة بمسار العملية الانتخابية وضماناتها، حيث ستجرى على أربع مراحل، وبالتالى يمكن لجبهة الإنقاذ أن تقيم الوضع بعد الجولة الأولى ثم تقرر هل ستكمل الانتخابات أم تعلن انسحابها؟.