أتذكر الأيام الأولى لى فى فيينا فى منتصف الثمانينات، كنت قادماً من القاهرة بكمية لا بأس بها من شرائط الكاسيت الموسيقية لأم كلثوم وعبدالوهاب وأسمهان وعبدالحليم وفيروز وشريط لعبدالباسط عبدالصمد وآخر للشيخ رفعت، وبعض الشرائط السودانية لابن البادية والأمين ووردى والكابلى وشريطين للفنانة جوجوش الإيرانية التى عشقت صوتها من المرة الأولى، وكنت أردد بعض أغنياتها التى ترجمها لى صديقى الجميل طاهر رامك الإيرانى الذى درس معى بجامعة عين شمس، ثم شريط خاص بأصوات أفراد العائلة جميعاً وأصوات بعض الأصدقاء. بعدها بسنوات قليلة أهدتنى زوجتى أسطوانتين من الحجم الكبير، فلم تكن أسطوانات ال«سى دى» قد ظهرت بعد: واحدة لعبدالعزيز المبارك والأخرى لعبدالقادر سالم. فى فترة لاحقة أهدانى أحد الأصدقاء راديو ذا موجة قصيرة، كنت أنصت إليه فى المساءات لنشرة أخبار بلغة عربية محاولاً تخمين من أى دولة تكون، أو لأغنية عربية تتماوج فى الهواء خفوتاً ووضوحاً وشوشرة، لكنها كانت ممتعة بهذا الإحساس الذى يقرب المسافة أو يبعدها. فى هذه الفترة لم يكن متاحاً لنا سوى القنوات التليفزيونية النمساوية والراديو باللغة الألمانية، مما أتاح لنا تعلم اللغة سريعاً. *** قبل عامين كنت فى زيارة مسائية لعائلة مصرية بغرض مساعدتها فى ترجمة بعض الأوراق الرسمية قبل التوقيع عليها. عائلة بسيطة تقيم فى النمسا منذ أكثر من ربع قرن. عند دخولى للشقة أصبحت بالفعل داخل مصر: الروائح والديكور والآيات القرآنية والنتيجة اليومية المصرية الشهيرة والمفارش والمصابيح. التليفزيون الضخم المتصدر كشاشة سينما داخل الصالة الصغيرة المكتظة بالأثاث. كان هناك مسلسل مدبلج للعربية تتابعه الأسرة بتشوق واضح. لم أشأ أن أكون ثقيل الظل وأحرم العائلة من متعتها، فانتظرت، كما كنت شغوفاً بتأمل هذه الحياة المصرية بكل طقوسها فى غرفة ضيفة داخل عمارة فى فيينا، بينما بدأ الأب بعد انتهاء المسلسل من التنقل بين عدد لا نهائى من القنوات المصرية والعربية! *** رغم أن الأمر يبدو جميلاً أن تُحضر بلدك إلى غرفتك فى الغربة، فإن المبالغة تؤدى بالضرورة للانعزال عن العالم القريب المحيط مقابل العالم البعيد والحنين إليه، ومن ناحية أخرى، فالتليفزيون والقنوات والفضائيات لعبت دوراً كبيراً فى جعل العالم قرية واحدة لكن بآلاف الرؤى المختلفة، فالمصرى مثلاً يشاهد قنواته المصرية ويتابع أخبار بلاده فقط ومباريات كرة القدم فيها والأفلام المصرية والمسلسلات، والسودانى والتونسى والسورى يفعلون الشىء نفسه يشاهد كل منهم قنواته وأغنياته ومبارياته وأخباره. لم تكن طفرة الفضائيات إلا وسيلة لإعادة إحضار العالم البعيد بحذافيره ليعيش الناس الوطن بشكل معلب ومكثف، مقابل معرفة زهيدة أو خاطئة أو جهل تام بالمحيط الذى انتقلوا إليه. إنها فى الحقيقة مشكلة مزمنة حين ينفصل الناس عن المجتمع الذى يعيشون فيه، وينتقلون عبر الفضائيات إلى داخل أوطانهم، دون أن يكلفوا أنفسهم خوض تجربة الانخراط فى العالم الجديد، والنتيجة أن الأبوين غالباً فى هذه الأسر لا يحسنون اللغة الألمانية وإن تكلموها، تأتى فى شكل كلمات مختصرة لا تكوّن جملاً تامة، تيسر فقط ما يكفل أبسط التعاملات اليومية، ويجهلون الكثير من المعلومات المتاحة فى بلاد المعلومات، بدءاً من خريطة المدينة حتى محتويات أى منتج، وفى كثير من الأحوال يلجأون للاستعانة بأطفالهم فى الترجمة عند طبيب أو هيئة رسمية، ويضطر التلميذ لمرافقة الأم أو الأب للمصلحة والقيام بالترجمة الفورية. مع الوقت ينزع الجيل الثانى نفسه تدريجياً من العالم الذى وجد فيه، بينما يمعن الوالدان أكثر فى الاستغراق فى فضاء الفضائيات التى تعيّشهم فى بلادهم. (فيينا، 8-2-2013)