«جدر البطاطا هو السبب يا ضنايا». ما زال جدر البطاطا الذى ذهبت عزيزة لاقتلاعه من الغيط كى تحقق حلم زوجها الأخير فى سد الرمق وكبح الجوع حياً يوقعنا فى براثن الحرام حتى هذه اللحظة، عزيزة بنت الغرابوة عاملة التراحيل زوجة عبدالله المريض العاجز منتفخ البطن فارغ الجيب، والتى يفترسها محمد بن قمرين فى الغيط ويحرك فى أحشائها ثمرة الخطيئة التى تحولت إلى شجرة وغابة خطيئة لأنها حدثت من غلبانة، من نفاية بشر، من مجرد غراباوية عاملة تراحيل ليس لها سعر، أبطال رواية العبقرى يوسف إدريس ما زالوا يعيشون بيننا بلحمهم ودمهم وحرامهم المزدوج، حرام الفقراء خطيئة لا تُغتفر، أما حرام الأغنياء فهو مجرد زلة ضمير بعض الرتوش تداويها والقليل من الاستغفار يجعلها تمر مرور الكرام. الخطأ الوحيد الذى ارتكبه يوسف إدريس فى رواية الحرام أنه تفاءل وتنبأ بأنه لن تكون هناك عزيزة بعد اليوم ولن يموت بنى آدم من الغرابوة بسبب البطاطا بعد الثورة، يا عزيزى ومعشوقى يوسف الجميل الرائع لم تُحسن النبوءة هذه المرّة، عمر صلاح ما زال يستكمل مشوار عزيزة، ذلك الطفل الذى قال قبل مقتله بساعات قليلة «من حقى أحلم.. أنا تعبت من الشغلانة دى!!»، لا يا عمر، ليس من حقك أن تحلم فى وطن الكذب، ليس من حق الغرابوة أن يحلموا، فهم غرباء عن هذا الوطن، من حقك فقط أن تكذب وتقول إن أباك ميت حتى تتركك الشرطة تتسول بالبطاطا المشوية أمام سفارة الأمريكان، من حقك فقط ألا تجيد القراءة والكتابة فى وطن تعليمه بالمجان وقتل الأرواح فيه بالمجان أيضاً، ماذا تجدى سطور الكتابة فى مجتمع العميان؟ بماذا تنفع تلاوة القراءة فى وطن الطرشان؟ ليس من حقك يا عمر أن تحلم بالأفضل، وليس من حقك أن تعلن أنك تعبان من عربة البطاطا، وليس من حقك أن تكفر بوطن يجوعك وينتهكك ثم فى النهاية يقتلك «هزاراً» وعن طريق الخطأ! حقنا الوحيد عليك هو تقرير طبى منمق عليه ختم النسر يختزلك فى جملة من سبع كلمات «مجهول ميت بطلق نارى فى الرأس والصدر»! عزيزة بطلة «الحرام» وبنت الغرابوة ماتت من حمى النفاس فهل متّ أنت يا عمر من حمى التجاهل وبلادة الإحساس؟!، عزيزة لم يغفر لها مجتمع التفتيش الفاسد الغارق فى الرذيلة والموبقات خطأها وطاردها وحاصرها حتى الموت، فهل غفر لك المجتمع تزويغك من عيون تجريدات الداخلية وحملات البلدية وتلويث شارع السفارة الإمبراطورية بقشور البطاطا المشوية؟! عزيزة صار كوخها الذى اختفت فيه من عيون البصاصين وقبرها الذى لملم جسدها النحيل مقاماً يتطهر فيه غربان الشؤم مدمَّمُو المناقير يمسحون فى جدرانه الرطبة جلودهم الخرتيتية لعلهم ينالون الصفح والغفران فهل سيحولون ناصية شارع عربية البطاطا إلى مقام، أم أن مقامك المتواضع لا يستحق هذا العناء والشرف لأن المتواضع فى وطننا وضيع؟! عمر صلاح من غرابوة مصر لم يخطه قلم يوسف إدريس بل خطه قلم القدر الذى حبا مصر بأغبى سلطة فى التاريخ، كل علاقته بالصحافة والإعلام ورقة الجورنال التى يلف فيها كوز البطاطا وكاميرا فيديو اليوتيوب التى وعدته بحل مشاكله قبل أن تلغى أيدى السلطة المتوضئة المؤمنة اليوتيوب نفسه لأنه ينشر الكفر ويسىء للإسلام، ولم تنسَ وهى تلغى وتحذف أن تغسل يديها من دم عمر الذى كان كل نصيبه من هذا الوطن صفحة فيس بوك «كلنا عمر صلاح» وهو الذى فى غمرة بحثه عن لقمة العيش لم يعرف الفيس ولا البوك، لم يعرف إلا الفقر والبؤس! عمال التراحيل الذين كتب عنهم يوسف إدريس لم تعد عربات الكارو تحملهم إلى حيث يجمعون لُطَع الدودة من جسد القطن، فلم يعد هناك قطن أصلاً لكى تسكنه الديدان التى هاجرت لتسكن الأرواح والضمائر، التراحيل والغرابوة الآن تحملهم تروليات المستشفى وتؤويهم ثلاجات المشرحة، نفرح بإطلاق اسم الشهداء عليهم وهم فى الحقيقة شهود، شهود على عجزنا وخيبتنا وقلة حيلتنا وهواننا ونفاقنا وبؤسنا، هم عمال تراحيل مثلهم مثل عزيزة حتى ولو كان من بينهم أدمن فيس أو مغرد تويتر، فنحن جميعاً صرنا غرابوة وعمال تراحيل فى وطن الإخوان، أصبحنا متفرجين مطرودين من جنة الإخوان وخارج زمن الإخوان فى مدرجات الطناش والنسيان، لأننا خارج منظومة الجماعة المقدسة لا نصلى فى هيكلها ولا نسبح بحمدها ولا نقبّل حذاء مرشدها. كل ما يحدث يجعلنا نعيد طرح السؤال الذى طرحه يوسف إدريس منذ نصف قرن وما زال يطرح نفسه حتى هذه اللحظة، ما هو الحرام؟ سؤال كل منكم يظن أن لديه إجابته الجاهزة ولكن لعن الله وطناً الحرام فيه مجرد وجهة نظر يتحول أحياناً إلى رصاصة فى جسد الفقير وأحياناً أخرى إلى وردة فى عروة جاكت الوزير!