يبدو أن السادة فى وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية قد نسوا وقائع ما حدث فى يناير 2011. وواضح أنهم نسوا أن ثورة يناير بدأت بالأساس احتجاجاً على ممارسات الأجهزة الأمنية وأنها اختارت لذلك يوم عيدها، وعندما استخدمت قوتها الكاملة انهارت والنظام الذى كانت تحميه. والأرجح أن السادة فى الأجهزة الأمنية لا يعتقدون فى أن ثورة قد حدثت فى مصر، فما زلنا نسمع حتى الآن هذا الحديث المكرَّر عن المؤامرات الخارجية والأجندات وغيرها من النظريات التى أدت إلى «أحداث يناير»، ولا يزالون غير مقتنعين بأن أعظم المؤمرات فى الدنيا لا يمكن أن تدفع بالملايين الغاضبة إلى الشوارع، وأن يظل الغضب مستمراً لعامين، وهو مرشح للتصاعد الملايينى من جديد فى شكل أقل سلمية مما كان عليه. وفى الفترة الأخيرة وبعيداً عن نظرية المؤامرة، استحدث القادة الأمنيون تفسيراً جديداً للأحداث الجارية، ألا وهو الانفلات الأخلاقى، وأظنهم يفسِّرون به ما جرى وما يجرى الآن، هى نظرية تستدعى معها ما انتشر من تعبيرات مثل «هيبة الدولة»، و«المواطنين الشرفاء»، و«المواطنين البلطجية». و«هيبة الدولة» كما يرونها تتجلى فى رهبة المواطنين جميعهم منها وخوفهم من قوتها الباطشة، و«المواطن الشريف» هو الذى يخاف من رجل الدولة وينفّذ تعليماته حتى لا يؤذى، أما «المواطن البلطجى» فهو المواطن الذى لا يخاف رجل الدولة ولا يرهبه. والبلطجى بحكم هذا التعريف ليس المسجل خطر أو المجرم، ولكنه المتمرد على استبداد رجل الدولة أياً كان وضعه القانونى. ومشكلة الثوار الآن هى أن التيار الذى يحكم البلاد كنتيجة لمسار المرحلة الانتقالية، وأقصد به التيار الإسلامى كله، باستثناء أفراد قلائل باتوا الآن على مسافة منه، يؤمن إيماناً راسخاً بنظرية الانفلات الأخلاقى تلك، وبالنتيجة أصبح الثوار يواجهون مَن يؤمن بأن الثورة انهيار أخلاقى، ومن رأى فى الثورة هبة ربانية للقفز على السلطة، وحين ملكوها أصبحت كل معارضة لهم هى مؤامرة وانفلاتاً أخلاقياً. وهكذا تتطابقت الرؤى وانسجمت المواقف، وكان نتيجتها ما رأيناه فى الأيام القليلة القاسية الماضية، وهى قاسية لأنها شهدت سقوط بعض من زهرات شبابنا شهداءً للسحل والتعذيب والقنص، وشهدت أكبر عمليات اعتقال منذ عامين كما شهدت لأول مرة عمليات السحل والقنص على شاشات التليفزيون، وعلى الهواء مباشرة، ولم يهتز النظام الحاكم ولم يرتجف، ولم يعلن مسئوليته، بل راوغ وراهن على القوة أكثر وأكثر. وواضح أن مشكلتنا الآن أننا أمام نظام حاكم لا يلتفت إلى أحد ولا يسمع أحداً ويظن فى نفسه القوة والمنعة، وقد توافق الآن من أجهزة أمنية لا تعرف غير القوة سبيلاً ولا تؤمن بحق المواطن فى ألا يخاف من الحاكم، وأن يطالب بحقوقه فى الشارع. وعلى الرغم من ذلك فعلينا جميعاً أن نسدى له النصح لعله يفيق. يا سادة، والله العظيم ثلاثة، ما يحدث فى الشارع الآن ليس انفلاتاً أخلاقياً، ولكنه غضب شعبى كبير، نرجوكم ألا تخطئوا تفسير المشهد، نرجوكم أن تدركوا أن المشهد يتحول الآن سريعاً إلى ما هو أكثر صعوبة، فالغضب وصل فعلاً إلى المناطق المحرومة، والغضب تحول فعلاً عن التعبير السلمى إلى المقاومة العنيفة، وهو حق لكل محروم أغلقت عليه كل السبل للعيش الكريم ووقفت حائلاً أمام حلمه بغد أفضل، إنها الثورة الشعبية الثانية.