«عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذْ عَوى وصوَّت إنسانٌ.. فكدت أطيرُ»! كان عجيباً أن يكتب هذا «المدنى بطبعه» -كما يصف علماء الاجتماع الإنسانَ- مُبِيناً عن نفرته من بنى جِنسه، وفراره منهم، واستئناسه بالذئاب الضارية؛ لأنها أكثر أُنساً من إخوانه الآدميين! ولقد ذكرنى هذا البيت للأُحَيْمِر السعدى أبياتَ أبى الطيب المتنبى التى يصف فيها نفوس بعض الناس، فيقول: إنما أنفُسُ الأنيسِ سباعٌ يتفارَسْنَ جهرةً واغتيالَا مَنْ أطاقَ التماسَ شىءٍ غلاباً واغتصاباً.. لم يلتمسه سؤالا! وهو حرفٌ قاسٍ يكشف لك الإنسان فى صورته المظلمة: معتدياً ظلوماً لا يبالى بحق، ولا يعرف إلا أن يكون باغياً مفترساً، ولو على أشلاء أخيه، فى ظمأٍ عارمٍ إلى الفتك والغدر، وهذا كله يدنيك من تفسير قوله تبارك اسمه: «وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا». فلو تُرِك الإنسان بعيداً عن فطرته، شارداً عن منازل النور والوحى، فسيكون أكثرَ إيغالاً فى العدوان والبطش من الحيوان الذى لا يعقل، وهو لا ينسى أن يجعل لعدوانه ثوباً زاهياً من «المبادئ» -!- والفلسفات التى تُنظِّر للفساد، وتؤسس للباطل، وتجعل من الجريمة أسلوباً حضارياً مدعوماً بالمواثيق والنظريات والأطروحات! ولربما نسى الإنسان هذه الحقيقة، فتأتى بعض الحوادث لتمد ذاكرته بمشاهد حيةٍ تريه كيف يكون الناس يوم ينسلخون من فطرتهم الآدمية: فهذه حشودٌ، «بشرية»، «إنسانية»، تهرول خلف «فتاةٍ» بالصخب، والصفير، والنشوة الظافرة، وتحاصرها، وتعتدى عليها باليد والسلاح أمام الأعين والكاميرات! وهذا آخر، بشرى، إنسانى، يتجرّد من رجولته ويُجرِّد غيره من ثيابِه، معتدياً عليه بالضرب والسحل، أمام الأعين والكاميرات! وهذه وجوه «بشرية»، «إنسانية»، تحتشد أمام قصر الاتحادية، وبيدها المولوتوف الحارق، ومن ورائها «ونش الخلاص»، لهدم الباب واقتحام القصر، أمام الأعين والكاميرات! وتلك أقلامٌ، «بشريةٌ»، «إنسانيةٌ»، تمارس قتْلَ الحقيقة، وإشاعة الكذب، وتشويه الناس، واختلاق التهم، والسخرية من المخالف، والاستهزاء به، ليل نهار! وذاك مصرى، بشرى، إنسانى، يقتل مصريًّا، ويعتدى على مصرى، ويستبيح عِرْضَ مصرى.. من أجل مصر! فى فلسفة الثورة والرصاص الجديدة! كنت منزعجاً مشروخ الألم من هذا كله، فإنها مشاهد جديدة تماماً، وغريبة تماماً، لا يكفى لإدانتها أو التعليق عليها إلا أن يستعير الإنسان دواةً من أفران «هتلر»، ليكتب شيئاً يليق بهذا «الهولوكوست» الإنسانى! وسيكون عبثاً أن أتساءل: هل يليق هذا بمصر؟! وسيكون من الخيانة أن أسكت عن جرائم الدم والنار التى إن استمرت ستحوِّل مصر إلى سلة رماد كبيرة، لا سلة قمحٍ وطعام، كما كانت قديماً! وسيكون نفاقاً أن لا أسأل الرئيس عن رؤيته لما يحدث، وخطواته المتأخرة، وصمته المدهش، وخطاباته التى لم يكاشف فيها شعبه بالحقائق، وعن الحوار الذى سرعان ما يُنقَض، والمبادرات التى لا تبقى، والمواثيق التى يكفر بها من وقَّع عليها؛ لأن هناك من يستكثر الكرسى على غيره، وهناك من يعتقد أن الصواب خِصِّيصَةٌ إلهية لم تُوهَب إلا له؛ فهو يمارس الكهانة الفكرية والسياسية دائماً وأبداً؛ فالحِلمُ مُطْمِعٌ، «وبعض الحِلمِ عند الجهلِ للذِّلةِ إذْعانُ»، كما يقول العربى القديم! لن يقيم الأمم إلا الحقّ، ولن يكون الحق فى ظلال مهادنة الباطل، ولن يصل ذلك الحق إلى هدفه بالرؤى المتعثّرة والخطوات المرتجلة.. والراعى مسئول، والذئاب لا ترحم!