مَن ذا الذى علم «أحمد» ذا التسع سنوات، ابن حارس العقار الذى أسكن به، أن يطعم كلاب المنطقة ويرعاها بمنتهى الرحمة؟ «أحمد» ابن منظومة التعليم الفاشل الذى نشكو ليلاً ونهاراً أنه السبب فى انهيار قيم المجتمع، لأنه بالتأكيد لا يذهب إلى مدرسة بريطانية أو ألمانية.. أين تعلم الرحمة التى لم يتعلمها أبناء الطبقات المتوسطة والعليا؟ «أحمد» تعلّم الرحمة من والده «محسن» حارس العقار ابن الفيوم، وهى من أفقر محافظات مصر، واستطاع أن يحول حديقة صغيرة أمام العمارة إلى جنة، فرأيت لأول مرة فى المدينة الهدهد وأشكالاً من الطير تتوقف بها، فيرويها ويطعمها «محسن» حتى تطير فى أمان، لأنها وجدت فى بقعة صغيرة الرحمة متجسّدة فى رجل يرعى الطير، وابنه يرعى كلاب الشارع.. قارنت بينهما وبين ما كتبته الصديقة منى خليل -وهى واحدة من أشد مؤيدى حقوق الحيوان فى مصر- حيث قالت: «تغيُّر سلوك المواطن مؤشر يُنذر بخطر شديد، فقد أصبح شنق الحيوانات فى عز الضهر مشهداً عادياً فى مصر وكل من يريد أن ينتقم من صاحب كلب، يذبحه فى وسط الشارع.. عادى أن يقف ناس على كوبرى ويلقون بكلاب وقطط فى النيل.. وعادى أن سيدة يُفترَض أنها محترمة تجد قطة ولدت على سلم العمارة فتأخذها وصغارها وتلقيها من الدور الثامن أو تشد عليها السيفون.. عادى عندما يجد واحد فى شارعه كلباً يضايقه صوته، أن يشعل فيه النار.. عادى أن زيارة وزير البيئة لمحمية وادى دجلة معناها حملة لقتل وتسميم الحيوانات.. مبروك عليكم مجرمى وقتلة المستقبل».. أعود إلى الطفل «أحمد» والرحمة التى وضعها الله فى قلبه.. عندما صدمته سيارة العام الماضى، وتعامل معه طبيب شاب فى مستشفى خاص بجفاء وقسوة، خرج أهل المنطقة يوبخون الطبيب، ووقفوا ضده حتى اعتذر.. طبيب لم يُعلّمه أهله كيف يحنو على طفل مصاب، لكن الطفل علمه أهله كيف يحنو على حيوان وطير.. ابن حارس العقار احتفظ بالرحمة فى قلبه، والطبيب انتزع الرحمة من قلبه لأن الناس هى التى تفعل ذلك بنفسها.. فتفسير الآية الكريمة: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، أن الله يغير ما بالناس إذا غيروا ما بأنفسهم أولاً، فإن كانوا على الاستقامة والرحمة ثم غيّروا إلى الضد غيّر الله حالهم إلى عكس ذلك، ولو كانوا فى المعاصى والشرور والقسوة، ثم توجهوا إلى الحق والرحمة، فإن الله يُغيّر ما بهم إلى أمن وعافية واستقامة وإحسان.. وقد شبّه الله سبحانه قساة القلب بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجر الذى تتفجّر منه الأنهار ويخرج منه الماء ويهبط من خشية الله، كما جاء فى سورة البقرة: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».. المحصلة: أبناؤكم لكم ويتعلمون منكم، فإن كانت بقلوبكم غلظة، تصير الغلظة فى قلوبهم، وستدفعون ثمنها فى المستقبل حين يتقدم بكم العمر، وإن كان فيها رحمة، فهى منكم وستجنون ثمارها حين تحتاجون إليها من أبنائكم.. أختلف تماماً مع مقولة «جبران»: «أولادكم ليسوا لكم، لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم»، لأن ما نغرسه فى أطفالنا يبقى معهم العمر كله.. لا تلوموا تعليماً متردياً، فهو نتاج مجتمع قاسى القلب، أقسى من الحجر، لا يرحم طيراً أو حيواناً مسكيناً، فكيف له أن يرحم بشراً؟