معاينة جسم طائرة مصر للطيران الإيرباص قد تكشف لنا أسباب الحادث المروع وقد لا تكشفها.. هل هو خلل بالطائرة، أم عمل إرهابى تم من داخل الطائرة، أم عمل إرهابى «دولى» تم من خارجها؟ كل الاحتمالات، حتى كتابة هذه السطور، مفتوحة، ولكنها تقود جميعاً لواقع أن هناك من أجرم بشكل أو بآخر فى حق 66 روحاً بشرية قضت فى الحادث، كانوا قد استسلموا للنوم، أو كانوا على وشك الاستيقاظ، ما عدا طاقم الطائرة الذى كان يقوم بعمله ويحلم بانتهاء اليوم حتى يعود كل من أفراده لبيته بعد رحلة شاقة وطويلة.. ولكن المعاينة التى لن تحدث هى لقصص وأحلام هؤلاء جميعاً.. كل يحلم باليوم التالى الذى كان يوشك أن يبدأ.. يحلم بلقاء أحباء بعد فراق طال أو قصر، أو يفكر فى عمل سيقوم به بعد ساعات قليلة.. ولكن الطائرة غير المزدحمة كانت تزدحم بما يدور فى نفس كل من عليها.. كل منهم كان يفكر فيمن سيتصل به فور هبوط الطائرة، وإلى أين سيتوجه ومن سيكون فى استقباله.. الحادث اغتال أحلامهم وأفكارهم وترتيباتهم لصباح اليوم التالى الذى كان قد أوشك على أن يشرق، ولكنه أشرق وهم فى عالم آخر أرجو أن يكون أفضل لهم، حيث لا يوجد إرهاب أفراد أو جماعات أو دول.. لو كانوا عاشوا ثوانى ليدركوا ما كان يحدث مع سقوط الطائرة فبالتأكيد أنهم لم يفكروا للحظة كيف أن الحادث سيؤثر على السياحة فى مصر، ولا على مستقبل الطيران فى العالم، ولا على الإجراءات التى ستتخذ اعتباراً من هذا اليوم فى مطار شارل ديجول الفرنسى، وفى كل مطارات العالم.. لو كانت أمام الطيار ومساعده الفرصة للتفكير ولو لثوانٍ معدودة ما كانا ليفكرا فى أى شىء غير كيفية إنقاذ الأرواح التى ينقلانها، وما كان لطاقم الضيافة إلا أن يفكر فى أنه يثق فى الطيار ثقة كاملة بعد ثقتهم فى الله سبحانه وتعالى.. ولكن قدر الله وما شاء فعل.. غاصت الطائرة فى أعماق البحر المتوسط، وغاصت معها الأحلام والأفكار التى لم يسجلها أى صندوق أسود ولم ترصدها شاشات أى رادار من تلك التى ما زال الأحياء يتبادلون الاتهامات حول ما سجلته.. إنها لحظات ضعف للجنس البشرى أمام ما يمكن أن يفعله من هم للأسف يحسبون أيضاً على البشر والذين أنهوا حياة عشرات من الناس لم يعرفوهم من قبل، وأحزنوا أحباءهم حزناً عميقاً.. ولكن ماذا نفعل نحن الأحياء وأفكارنا المشوشة تملأ الغرف التى نسكنها؟ كل ما يمكننا فعله ربما هو تدارك تكرار الأمر أو احتواء تبعاته رغم أن ذلك لن يقلل من فجيعة أسر وأحباء من سقطوا من السماء.. ربما نصلى وندعو لهم.. ربما نتأكد أننا فى حالة حرب رغم الحزن والألم.. حرب الكل معرض فيها لمصاب فى أى لحظة وفى أى مكان.. لا أسعى لكتابة مقال يدعو للاكتئاب ولكنها الأفكار التى تتزاحم فى رأسى فى توقيت من الليل يشابه توقيت الحادث.. أفكر فى الضحايا وأفكر أكثر فيمن قتلهم لو كان الحادث بفعل فاعل.. هل هو مستيقظ؟ هل انتصر؟ لماذا لا يعلن نصره إذاً؟ أيستطيع النوم، أم أنه كما فى الأعمال الدرامية يؤنبه ضميره.. هذا الضمير أيضاً فى حاجة إلى معاينة كمعاينة أفكار وأحلام الضحايا.. ولكنها معاينة لن تحدث، مثلها مثل معاينة جسم الطائرة، وتلك أيضاً لن تأتينا غالباً بإجابات شافية؛ لأن هناك من هو من مصلحته للأسف أن يطمس الحقيقة.. فلن نعرف، ولكن الله يعلم، وهو المنتقم الجبار..