عرضنا فى مقال الأسبوع الماضى لمجموعة أفكار يمكن أن تشكل بداية لانطلاقة تنموية وحل للمأزق الاقتصادى والمجتمعى الذى تعيشه مصر الآن. وتقوم هذه الأفكار فى مجملها على أساس تحريك طاقات الإنتاج الوطنية واستثمار الموارد والقدرات الذاتية للوطن وكفاءات المصريين، بما يحقق زيادات ملموسة فى الناتج المحلى الإجمالى وفى نفس الوقت تخفيض الاعتماد على القروض الخارجية والمساعدات والمنح من الدول العربية والأجنبية ومن المنظمات الدولية. وقد نجحت دول كثيرة فى اجتياز مصاعب اقتصادية عسيرة وقدمت نماذج للتطور الاقتصادى والمجتمعى تعتمد فى الأساس على التوظيف العلمى للموارد والقدرات الوطنية. والمعروف أن أهم دول حققت أعلى معدلات النمو فى 2012 كانت هى الأبعد عن توقعات الخبراء من حيث قدرتها على تحقيق إنجازات اقتصادية مبهرة. ففى الوقت الذى تعانى فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية وكثير من الدول الأوروبية صعاباً اقتصادية، نجد دولة مثل «النيجر» التى تعتمد اقتصادياً على معونات الدول الغنية، والتى تُعتبر من أفقر بلاد العالم وتعانى من الجفاف والزيادة المستمرة فى عدد السكان، تحقق تقدماً اقتصادياً مشهوداً، حيث تشير التنبؤات الحديثة إلى نجاح «النيجر» فى تنمية مواردها من الذهب والفحم والبترول، وحيث يُقدر النمو فى الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 15.4% فى 2012. وثمة مثل آخر نجده فى «العراق» حيث تحقق تقدماً اقتصادياً سريعاً رغم ما تعيشه من توترات سياسية واجتماعية، ومن المنتظر أن يحقق الناتج المحلى الإجمالى العراقى معدل نمو 10.5%. حتى «أنجولا» من المتوقع أن يبلغ معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى فيها 10.49%، حيث استطاعت تنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادى وتصويب هيكل البنية التحتية فيها وتنمية صادراتها. وبالمثل حققت «الصين» نمواً فى الناتج المحلى الإجمالى بلغ 9.52% فى عام 2012. فى الوقت ذاته تراوحت الزيادة فى الناتج المحلى الإجمالى فى مصر فى 2011 بين 1.2%- 1.8% حسب تقديرات وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA! ولا تقتصر معاناة مصر وشعبها على الضائقة الاقتصادية، وإنما تتعداها إلى محن سياسية ومشكلات دستورية تهدد الاستقرار الوطنى وتضرب وحدة الشعب فى الصميم. فقد فشلت حكومة النظام الجديد الذى نشأ بانتخاب الدكتور محمد مرسى رئيساً للجمهورية فى تحقيق أى تقدم أو إنجاز له معنى فى مواجهة التحديات التى تواجه مصر. ولم تنجح خطة المائة يوم التى التزم بها رئيس الجمهورية فى علاج أو حتى التخفيف من مشكلات المرور والأمن وعدم انتظام الوقود وتطوير جودة رغيف الخبز وتيسير الحصول عليه، ولا التخلص من مشكلة القمامة. ولا نعلم مصير خطة الإصلاح المالى والاقتصادى التى وعدنا بها رئيس الوزراء «بأجزائها الثلاثة؛ قصيرة المدى ومتوسطة والخطة طويلة المدى حيث تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادى بمعدل يرتفع من 2.2% عام 2011/2012 إلى 3.5% عام 2012/2013، ثم 4.5% عام 2013/2014، ومن ثم الوصول بمعدلات النمو إلى 7% فى المتوسط حتى عام 2022»! وعلى نفس النهج جرى التبشير بمشروع عملاق للنهضة الشاملة واتضح أنه مجرد شعار للدعاية الانتخابية وقت انتخابات الرئاسة، غابت أى أنباء عن «حساب النهضة» رقم 333- 333! وأدت قرارات رئيس الجمهورية وإعلاناته «الدستورية» إلى تأزم المشهد السياسى وإجماع الأحزاب المدنية والقوى السياسية والمجتمعية على رفض تلك الممارسات غير الديمقراطية التى قوضت سلطة القضاء وأهدرت مكانة المحكمة الدستورية العليا، وأدت إلى أحداث عنف مؤسفة فى موقعة محمد محمود 2 ومحيط قصر «الاتحادية» استشهد وأصيب فيها العشرات من أبناء مصر. وفى النهاية تم تمرير دستور لم يوافق عليه سوى أكثر قليلاً من 20% من المصريين ممن لهم حق التصويت فى الاستفتاء! ويزيد من تأزم المشهد الراهن فى مصر، التردى المتواصل فى الخدمات العامة والانهيار شبه الكامل فى منظومة السكك الحديدية ومئات القتلى والمصابين فى حوادث تصادم القطارات وسوء الصيانة وعدم كفاءة القائمين على إدارتها. ويقع فى القلب من أسباب التردى العام فى الأوضاع المصرية، الإخفاق فى «إدارة شئون البلاد» وإجهاض ثورة 25 يناير الذى تجلى فى فشل القائمين على الحكم -سواء لعدم المعرفة أو التعمد- فى تحقيق عملية التحول الديمقراطى! لذلك يكون سبيل الخروج من المأزق الحالى فى مصر ضرورة العودة إلى تمثل أهداف الثورة التى عبرت عنها الملايين: عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية، وتأكيد قيم الديمقراطية التى تحرر الإنسان المصرى وتتيح له فرص انطلاق إلى آفاق الحرية والابتكار والإبداع فى مجالات الحياة. إن الإنسان المتحرر من قيود الحكم الديكتاتورى والمنطلق فى أجواء الحرية وسيادة القانون والمتمتع بالعدالة الاجتماعية قادر على التعامل بإيجابية مع التحديات والظروف غير المواتية المحلية والإقليمية والعالمية، واكتشاف الفرص والمهددات القائمة والمحتملة، وتحديد مواطن القوة والضعف فى البناء الوطنى. كذلك يبدع المواطنون الأحرار فى البحث عن الوسائل والموارد والطاقات والإمكانيات التى يستطيعون بجهودهم وإبداعاتهم استثمارها للإنتاج وتحقيق معدلات عالية من الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية. إن ظروف القهر والاستبداد قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، والمستمرة حتى الآن رغم مزاعم وشعارات الديمقراطية التى تتردد فى الخطاب الرسمى حالياً، لن تنجح فى إدارة التنمية والإصلاح الاقتصادى، ولن تحقق نتائج ترتفع إلى مستوى التطلعات لرفع مستويات المعيشة وإنجاز نقلة ملحوظة فى القدرات الإنتاجية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية طالما استمر تهميش المواطنين والقوى السياسية والمجتمعية وعدم تنفيذ وعود الرئيس بالالتزام بالشفافية الكاملة فى اتخاذ الإجراءات «الحيوية، وتفعيل مبدأ الشراكة الوطنية»، وذلك وفق اتفاقه فى فندق «فيرمونت» يوم 21-22 يونيو 2012 مع «الجبهة الوطنية الثورية» التى ساندته وقت انتخابات الإعادة. إن المد الديمقراطى الذى تعاهد المصريون على الكفاح من أجله سيمكنهم من ابتكار نموذج تنموى غير تقليدى يهيئ لانطلاقة تنموية مستدامة تستثمر طاقاتهم فى إطار ديمقراطى يحقق تكافؤ الفرص والعدالة فى توزيع الدخل بينهم. والمصريون يتمتعون بتكوين حضارى متميز قادر على التفاعل مع الغير واستيعاب وتمثل المستجدات الثقافية والتقنية. ويدرك المصريون أنهم قادرون فى مناخ الديمقراطية على تحقيق طفرة فى الإنتاج الزراعى والصناعى والخدمات بما يوفر كل احتياجات المواطنين ويغنيهم عن تسول المعونات والقروض، وهم قادرون على تأسيس مشروعات وطنية عملاقة مثل تطوير محور قناة السويس إلى مركز لوجيستى عالمى وهى التى حفرها أجدادهم بدمائهم فهم بناة الأهرام ومحطمو خط بارليف! ورب قائل يقول إن دولة مثل الصين، وغيرها كثير، التى نجحت فى تطوير اقتصادها وحققت ما يشبه المعجزات تفتقر إلى الديمقراطية، ولكن الرد أن تكامل النهج الديمقراطى مع خطط الإصلاح الاقتصادى كفيل بتحقيق تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية مستدامة، وهذا مطلب المصريين فى مصر الثورة!