- أنت رائعة الجمال ياراشيل: هذه الجملة قالها «فان جوخ» لفتاه البار فى ملهى وهو يتأمل وجهها فى أعجاب: فابتسمت له الفتاة وردت فى دلال وترغيب: - إننى أحب أن يعجب بى الرجال.. فكم هذا جميل. وحينما هم الفنان بالانصراف قبلت أذنه مرددة: - إن لك أذناً صغيرة جميلة كأنها أذن جرو.. تعال لترانى كل ليلة.. - ليس كل ليلة.. فليس معى المال اللازم لذلك.. - إذا لم يكن معك المال فأعطنى أذنك إذن.. إننى أحب أن أقبلها دائماً.. وودعته وهى تكرر مؤكدة: لا تنسى أن تبعث إلى بأذنك الصغيرة.. وما يلبث «فان جوخ» بعد فترة أن يذهب مرة أخرى ذات ليلة إلى الملهى ورأسه معصوبة بضمادات كثيرة.. وما أن يرى الفتاة حتى يمد يده إليها بلفافة مربوطة مردداً: إليكِ هذا التذكار.. تحل الفتاة الرباط.. فيظهر على وجهها أقصى درجات الذعر والهلع حيث تجد بداخل اللفافة أذناً يقطر منها الدم.. وتسقط مغشياً عليها.. إن حالة «الفصام البارانوى» هنا تبدو واضحة جلية.. حيث يعانى المريض من ظاهرة خداع الحواس المتمثل فى الهلاوس السمعية والبصرية.. وهى مدركات حسية ليس لها أى مصدر فى العالم الخارجى.. فيسمع المريض أصواتاً تتحدث إليه أو تذكر اسمه دون أن يكون هناك من يتحدث إليه.. كذلك يرى أشخاصاً أو أشياء غير موجودة فى الواقع.. وقد تحدث الهلاوس فى أى حاسة من الحواس.. إلا أن أكثرها شيوعاً خلال جميع مراحل المرض هى الهلاوس السمعية، وأقلها شيوعاً هلاوس الشم والتذوق واللمس. يمكننا أن نستنتج إذن من واقعة قطع «فان جوخ» لأذنه وإهدائها للغانية القائمة على الحوار الذى تم بينه وبينها.. أن هذا الحوار لم يتم فى الواقع وإنما تم تحت تأثير الهلاوس السمعية.. حيث تصور أن تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الواسعتين الزرقاوين والشعر الأسود الفاحم.. تبادله الحب.. كرد فعل لإحباطاته السابقة فى علاقته بالمرأة.. ففى بداية حياته كان يعمل بائعاً للصور فى متحف «جوبيل» بلندن.. وحينما أحب لأول مرة قوبل حبه بالامتهان.. ففى الليلة التى قال فيها لفتاته (أورسولا): أتقبلين أن تكونى زوجتى!!.. أجابته باستهجان: زوجتك أنت!!.. هذا محال.. وانصرفت من أمامه مسرعة وهى تتمتم: يا لك من بائع صور أحمق.. أحمر الشعر.. وما يجعلنا نميل إلى هذا الاعتقاد ارتباط عرض آخر من أعراض الفصام -بالإضافة إلى الهلاوس السمعية والبصرية- إلى حالة «فان جوخ» هو سيطرة المعتقدات الضلالية على عقله.. تلك المعتقدات التى تتزايد فيها شكوك المريض فى الآخرين.. حيث يعتقد أنهم ينظرون إليه نظرات غريبة.. ويسخرون منه.. ويميل إلى تأويل الوقائع والأشياء تأويلاً غريباً.. لا يشاركه فيها أحد.. فيتصور مثلاً أن بيته قد ثبت بداخله أجهزة تنصت ترصد تفكيره، أو أن طعامه قد وضع فيه سم.. كما أنه يقتنع اقتناعاً تاماً أن بعض الناس أو القوى الخارجية تعمل على اضطهاده أو إيقاع الأذى به.. أو على الأقل ترصد سلوكه وتخطط لإلحاق الضرر به فى المستقبل. ما يؤكد ذلك أنه بعد حادثة قطع «فان جوخ» لأذنه وأهدائها للغانية بعدة أسابيع.. حدث أن كان ذات ليلة فى أحد المطاعم.. وإذا به ينتفض فجأة ويدفع بالطبق إلى الأرض ويركل المائدة بقدمه وهو يصيح فى ثورة عارمة: «إنكم تريدون أن تسمونى».. وحضر رجال الشرطة وحملوه إلى المستشفى.. وما لبث الطبيب أن قرر إدخاله مستشفى «سان ريمى» للأمراض العقلية. والبقية الأسبوع القادم