فى منطق ملاكمة المحترفين والمصارعة الحرة وبعض الألعاب القتالية غير المسئولة يُعد الضرب فوق الرقبة مشروعاً، على عكس الضرب تحت الحزام الذى يُحظر بشكل حاسم ورادع! تأملت هذا الأمر، ولاحظت أن الرياضات المحترمة لا تسمح بضرب الرأس العارى، كما لا تسمح بالضرب السفلى، ففى حين تقوم تلك الاستعراضات المريضة على مخاطبة «المجرم» فى كل منا، نجد أن الملاكمة الأولمبية لا تمارَس إلا بواقٍ للرأس وقفازات تزداد تماسكاً مع ارتفاع وزن الملاكمين، حيث ينعكس ذلك بشكل مباشر على قوة الضربة. هل تتذكرون القاعدة الميكانيكية: القوة تساوى وزن الكتلة مضروباً فى سرعة تحركها؟ الرياضة المحترمة التى أنحاز لها كثيراً لا تسبب أضراراً لممارسيها، وإنما تزيدهم لياقة من الناحيتين: البدنية والنفسية. للرياضة القائمة على التنافس الشريف فوائد جمة، لست حاصراً لها الآن، ولكنها أعانتنى على توضيح أهمية رأس الإنسان كمركز لقيادة جسد يمكن أن ينفع الناس ونفسه، ويمكن أن يدمر نفسه ومن حوله. هكذا أرى دور الرأس البشرى الذى يتعرض للكثير من الانتهاكات.. يبدأ انتهاك الرأس بمصادرة حقه فى التفكير، وهو ظلم شديد، لأنه يحرم صاحب الرأس من أكبر نعم الله على الإنسان، ألا وهى نعمة التفكير التى تهدى -مع الفطرة السليمة- إلى حب الحق والعدل والخير والجمال، والسعى لإرضاء الله تعالى. لقد دأبت الأنظمة الظالمة والمستبدة على ضرب الرأس بقفاز الظلام الأسود، فكان التعليم التلقينى، وغابت الثقافة التى تدعو إلى النور والاستنارة؛ كثيراً ما حاولوا حجب نور الشمس، ولما استعصى عليهم ألقوا بأعدائهم من المفكرين والمنحازين لحق التعبير وراء جدران لا تنفذ منها الشمس، تُسمى الزنازين. وسيلة أخرى اكتشفوها، وتلاقت مصالحهم فيها مع أعداء الوطن.. وسيلة تقوم على تدمير الرأس عضوياً، وأعنى بها كل ما يستخدمه الإنسان لإذهاب عقله وتغييبه أو تعطيله. عقاقير لا أول لها ولا آخر؛ اخترقت أمخاخ الصغار وأحرقت خلاياها.. اذكر ما شئت من الخمور والمخدرات والمنبهات والمنشطات.. الطبيعى منها والتخليقى.. ما يُبتلع، وما يُشرب، وما يُحقن، وما يُمتصّ من سطح الجلد، وغير ذلك مما قد لا أسمع به من وسائل قذرة كلها ضربٌ أعلى الرقبة.. ضربٌ غادِرٌ فى الرأس! حسبما تفيد التقارير الطبية والإحصاءات، فإن الأمر وصل إلى مرحلة مخيفة من التدهور والغرق فى بحور ضرب الدماغ. تنشط الشرطة أحياناً، وتتراجع كثيراً عن أداء هذه المهمة المعقدة؛ البيع علنىٌّ فى كل مكان، بل وصل الأمر منذ فترة غير بعيدة إلى ظهور موقع إلكترونى يرشد المدمنين إلى أماكن البيع بدون استغلال، كما أفاد الموقع الجهنمى!! نحن إذن أمام حرب ثلاثية على الدماغ المصرى: تعليم متدنٍّ.. غياب للثقافة.. انتشار لبؤر التعاطى والإدمان. أعرف أن التصدى للثلاثة معاً أمر صعب، وأعرف أيضاً أنه ليس مستحيلاً، قياساً على تجارب دول أخرى نجحت فى شراء دماغ كل مواطن فيها باتباع سياسات ذكية وفعالة؛ أدت إلى تقليص كبير فى معدلات التدخين وتعاطى الخمور والمخدرات، يحدث هذا فى حين تزداد معدلات تدخين السجائر والشيشة فى صدورنا وعلى أرصفتنا. شراء الدماغ الذى أعنيه يتناقض معناه تماماً مع شراء الدماغ المتعارف عليه الذى يدعوك -كذباً وتضليلاً- إلى تغييب عقلك حتى يرتاح دماغك! شراء الدماغ على هذا النحو لن يزيدك إلا معاناة وألماً عاجلاً أو آجلاً، فمصير التعاطى -كما تؤكد الإحصاءات- الموت أو الحبس أو انحرافات لا أول لها ولا آخر، أتحرج من مجرد ذكرها! فلتتعاون كل مؤسسات الدولة لإنتاج مشروع ثقافى عملاق، يكون مقياس نجاحه هو مدى تراجع معدلات الضرب أعلى الرقبة. هل نتوقع هذا المشروع فى برامج الأحزاب الانتخابية، أم سيشترون دماغهم، ورضاء الناخبين؟