«الإنسان هو الكائن الذى ينسى أنه ينسى»! كثيراً ما يكون السؤال: ما الذى ميّز «فلاناً»، وأخذ بيديه ووضعه فى مقدمة القافلة الإنسانية، وأنت تعلم أن فى الحياة ما فيها من صعاب وتحديات وشواغلَ تصرف الإنسان صرفاً عن غايته التى خُلِقَ من أجلها؟! سؤالٌ يعرى القصور الذى أصاب النظرة الإنسانية، ويكشف مدى إيغالها فى اقتراف «الطَّمس» الذى يذهب بمعالم الحياة فى رحلة غريبة موحشة، تمحو ملامح هذا الإنسان، و«تُنسيه» كل ما يكون به إنساناً! نعم، إن محنة الإنسان أنه ينسى؛ ينسى بدءَه، وعتمةَ العدم التى كان فيها، وضعفَه المفتقرَ، وينسى خالقه وحقَّه عليه، وغايتَه التى وُجِدَ من أجلها، وطريقَه الموصلةَ إلى تلك الغاية.. حتى نسى أنه إنسان! بينما يمتاز الذى مارس فعل «التذكر» فعلم غايته، وما يريده فى هذه الدنيا، فلم يتكور حول لذته ليكون رغيفاً بشريا، ولم يذِلَّ لغيره فيكونَ حذاء إنسانياً! ولن يكون متذكرا إلا إذا كان «ذاكرا»، يديم النهل من كوثر الوحى الشريف، الذى يطلعه على حقيقة الوجود، والنفس، والمصير، فيبصر ويشهد ويسمع ويرى! ولم يكن عجيباً أن يكون أول نعت للمتقين الذين ينتفعون بكلام رب العالمين هو «الإيمان بالغيب»، فالقرآن يخرج بك من سُور هذا «المشهود» إلى رحابة «الغيب» الذى لا تبصره سوى حدقة الإيمان، ويعلمك أن لك امتداداً آخر فى الزمان والوجود.. ولكن الإنسان ينسى! دعنى أعُد بك مرة أخرى إلى ذاك الاقتباس المعلق على ناصية المقالة بين يديك، وهو ليس لى، بل هو للفيلسوف المغربى الكبير؛ الدكتور طه عبدالرحمن، الذى أدهشنى بكتابه الرائع «روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية»، وكان هذا المقال ثمرة ذاك الكتاب! والكتاب كله فى نظرى متولِّدٌ من تدبر د.طه عبدالرحمن فى ثلاث آيات من القرآن المجيد، حملته فارتقى للنظر فى الدعوى العلمانية التى تفصل الدين عن السياسة، ورأى أنها تفضى إلى تضييق الفضاء الوجودى للإنسان، وتُدخله فى دوائر متضادة توهم الإنسانَ بأنه سيد نفسه، فيطغى ويتكبر، ويشقى نفسه ناسياً تدبير خالقه، بتعبُّده لفكره القاصر، وانكفائه على عقله المحدود، واتكائه على علمه المقيّد. كما أنه نظر الدعوى التى تقول بالوصل بين الدينى والسياسى، إما: - بدمج الدين فى السياسة، وهو ما لجأت إليه السلطة الحاكمة، فقادنا إلى «تدبير للدين يخدم أغراض التسيُّد لا أهداف التعبُّد، ويتأول النصوص الدينية على حسب أهواء الحكام». - وإما بدمج السياسة فى الدين، وهو ما لجأ إليه مَن أخذ بالمفاهيم التنظيمية والآليات ذات الأصل العلمانى، دفعا لتهمة التطرف، أو طمعاً فى نيل السلطة! وينتقل من هذا كله إلى تجاوز هذين التصورين، لتأسيس ما أسماه «الدعوى الائتمانية»، التى تُذَكِّر الإنسان «بالأمانة» التى حملها بمحض إرادته، وسبقت «الفصل العلمانى»، و«الوصل الديَّانى»؛ لتقوم برعاية الخلق، وحفظ الصلة بالحقّ! خمسمائة وست وعشرون صفحة هى العمر الورقى لهذا الكتاب -الذى سرق من صاحبه أربع سنوات- ستكون دليلاً حياً على أن اتصال الإنسانى بالبيان الإلهى الذى وَسِعَ الكونَ والحياة والمصير وحركة النفس الإنسانية، يجعله أكثر استيعاباً لحركة الكون، وأكثر فهماً لأسراره، وأكثرَ إبداعاً ورُقيّاً وجمالاً!