عادة ما تُعرف الحقيقة على أنها الشىء الثابت يقيناً، ولكى نصل إليها علينا ألا نحتكرها وأن نعيد بناء المعرفة عبر نقد كل ما حولنا، بلا محاذير ولا ممنوعات، عبر مناهج البحث العلمى وليس بالفهلوة، لأننا نسعى لتحليل الواقع وليس تحليل هيموجلوبين. الإعلام المصرى، بأنواعه كافة، التقليدية والحديثة، وبرعاية الدولة التى لا تنظمه، يُدعم الجنون، عبر بناء المواطن اللامنطقى، وهو مواطن يستغنى عن الموضوعية ويتبع بدلاً منها تقنيات اللامنطق، والتى يسميها الشباب «هرى» وأحياناً «هذى» وسط حالة عامة من «الهيصة»، لنصل فى النهاية إلى المواطن اللامنطقى المجنون الذى سيحول جنونه يوماً ما إلى الدولة نفسها، وقتها لن يلومه أحد؛ لأنه ليس على المجنون حرج. المواطن اللامنطقى المجنون، الذى يصنعه الإعلام، يتبع عدة آليات مجنونة للتفكير أولها الهجوم على الشخص بدلاً من القضية، ففى العالم كله قد يُقال: «فلان محترم، لكننى أختلف معه». أما فى مصر فغالباً ما يُقال: «فلان غير محترم» ثم يُكمل الشخص فى سره: «لأننى أختلف معه». فلا بد عندنا أن يتحول كل صاحب رأى مخالف إلى مدعٍ أو مرتشٍ أو به عيوب خلقية أو أى مصيبة من أى نوع (مثل أن يُعارض أحدهم النظام فيُقال مثلاً إنه شاذ، أو عليه قضية نفقة!). خلط الأوراق هو آلية لا منطقية بامتياز، مثال ذلك ما يحدث عندما يحصل مسئول سابق على البراءة فى قضية ما، والتى لا يوجد قانون لمحاكمته عليها أصلاً، بينما ينال أحد النشالين مثلاً حكماً نهائياً بالسجن، فيتم خلط الأوراق ويكون هذا دليلاً دامغاً على أننا نعيش فى دولة الظلم. وبناء عليه، منطقياً، لا بد من ترك صغار اللصوص دون حساب لأننا فشلنا فى إدانة بعض الكبار! مصائب الآخرين تمثل فرصة للامنطق؛ تشتكى مثلاً من الفساد فيقول لك أحدهم إنه موجود فى العالم كله، وهذا قد يكون صحيحاً، لكن السؤال عن نسبة ذلك الفساد وعن الإجراءات التى يتبعها العالم كله ضده.. يحدث هذا أيضاً بعد العمليات الإرهابية فى أى دولة متطورة، فالمقاربة الإعلامية وقتها يكون ملخصها «عندهم زى عندنا» أو فى أفضل الأحوال «يا عزيزى كلنا فاشلون». وهذا بعيد عن الحقيقة. يعتقد اللامنطقى كذلك أن الشىء صحيح لأن عدداً كبيراً من الأفراد يؤمنون به (بينما لا يؤمن هو بالبوذية أو الهندوسية مثلاً على الرغم من أن أتباعهما بمئات الملايين). وهذا يجعله يظن أن كل أمر رائج هو شىء قيم، بينما الرواج ليس مرآة للقيمة بالضرورة (تابع جودة الروايات الأعلى مبيعاً أو مستوى الأفلام الأكثر مشاهدة). «المصادر» غائبة عند اللامنطقى، حيث يلقى الأفكار أمام الآخرين مع تأكيد أنها صحيحة عبر استخدام تصريفات الفعل «قال» (قالوا، بيقولوا، قالوا لى..)، وعادة ما تسمع منه تأكيدات على صحة كلامه تتلخص فى أنه «قرأها على الفيس». يقتنع اللامنطقى بما قيل له، دون أدنى قدرة على البحث، لذلك فهو يفضل «راحة البال» وغير مستعد للصدمة الفكرية، ولذلك فهو لا يكتفى برفض الجديد فحسب بل يرفض مجرد مناقشة القديم. يهتم اللامنطقى بالشكل ولا يعنيه المضمون كثيراً، فما دام هذا الشخص يتحدث بهدوء ويستخدم لغة عربية معقولة فهو إذاً مثقف، فلنرشحه سنوياً لوزارة الثقافة.. وما دام ذلك الكائن يهاجم الدين فهو مستنير ولا بد من التضامن معه. يعتقد اللامنطقى أن القبح هو القاعدة، وأن من يمارس الجمال هو الشاذ، مثل تعجب البعض من غضب روما على مقتل الطالب الإيطالى ريجينى بالقاهرة، والقول إنهم «مكبرين الموضوع»، وكأن ما تفعله إيطاليا من البحث عن حقوق مواطنيها خطأ، فقط لأننا لا نفعل ذلك.. وتنتشر هنا أفكار عبثية مجنونة، فتجد أحدهم يدعم وجهة نظره بسؤال حماسى يقول: كيف تقتل الداخلية ريجينى وهى لا تقتل الأجانب (يُقر ضمناً بقتل المصريين)، ولا تعتمد على هذا النوع من التعذيب (يعترف ضمناً بوجود تعذيب)! المواطن اللامنطقى حينما لا يجد ما يدعم قضيته، يختلق القصص السرية ويرددها كونها حقائق (مثل من يريدون تأكيد صحة «حديث الذبابة» فيقولون إن ألمانيا قد أثبتته علمياً لكنها تخبئ النتائج فى معاملها خشية من دخول الناس فى الإسلام).. وفى هذا الصدد يتم نسج قصص عمن يسيئون للدين الإسلامى، فإما أن هؤلاء قد أسلموا، وإما قد احترقوا وهم نيام! اللامنطقى يأخذ من الأنماط المضادة له -دون خجل- ما يريده ويبتغيه ويحقق مصالحه، بغض النظر عن رفضه التام لتلك الأنماط (مثل معظم العائلات المسيحية، والتى تطبق الشريعة الإسلامية فى المواريث فحسب، فيأخذ الذكر مثل حظ الأنثيين، بينما النص الإنجيلى يقول: «الرجل ليس من دون المرأة، ولا المرأة من دون الرجل»). اللامنطقى لا يعرف الوسطية، فلا بد أن تكون متطرفاً على جانب ما (إما أن تؤيد النقاب مثلاً أو تُتهم بأنك من دعاة التعرى، بينما هناك وسط غائب يسمى الحشمة). وهذة بيئة ينشط فيها نزع الأمور من سياقها، فيغيب المعيار ويصبح أكثرنا تجاوزاً مدافعاً عن الأخلاق، تبعاً لأسلوب «العاهرات أكثر من يتحدثن عن الشرف». وتضيع المقاربات ويصبح انتقاد الشىء لسبب محدد رفضاً للنسق كله (مقاربة انتقاد النقاب تتعلق بالأمن وليست هجوماً على الدين، الذى لا يُعد النقاب جزءاً منه أصلاً). المقدمات فى عالم الجنون لا تؤدى طبعاً إلى نتائج منطقية، فيتم عرض شىء كونه نتيجة لشىء آخر، بينما الأمران لا علاقة بينهما إلا علاقة التضاد! مثل تسريبات المكالمات الشخصية، التى أذيعت على الملأ كونها تمس الأمن القومى، وبالطبع لم تكن كذلك، بينما راح المذيع يؤكد طوال الوقت «اسمعوا الخيانة، مش قلتلكم».. هذا أسلوب جعل البعض يصدق القصص المضحكة التى رُوجت عن قتل الطالب الإيطالى «ريجينى»، ومن قبلها القصص الأكثر إضحاكاً عن قتل المصرية «شيماء الصباغ» قبل الوصول للجانى الحقيقى. فى عالم الجنون، تشيع حولنا حالة عامة من التنميط، حيث تنتشر الصور النمطية، وهى صور مُعممة ومختزلة ومشوهة وتمثل أحكاماً نهائية لا تدعمها أى حقائق (كالاعتقاد بأن فلاناً دوماً على حق، أو أن كل أفراد فئة معينة من المجتمع شرفاء أو فاسدون). كما لا يفهم اللامنطقى الفرق بين الكل والجزء، فتتوه القضايا وسط التفصيلات. مثل أن ترفض مصر قانوناً يُعمم العقوبة ضد قوات حفظ السلام جميعها حال حدوث اعتداء جنسى من أحد أفرادها، فيقول اللامنطقى إن مصر مؤيدة للاعتداءات الجنسية! ومثل أن ترفض مؤسسة الأزهر تكفير داعش، منعاً لجعل لعبة التكفير شيئاً سهلاً، فيُقال إن الأزهر يشجع الإرهاب. يتم كل ما سبق فى إطار عام من غياب العلاقة المشروعة بين السبب والنتيجة، فتتعالى الأصوات الغيبية التى تميل إلى رد الأمور لأسباب قدرية أو تآمرية (مثل الظن بأن أحوالنا السيئة هى رغبة إلهية أو مؤامرة كونية، بينما يكفى فقط أن نعمل بإتقان فيحبنا الله ونتغلب على الأعداء). أما النخبة فتمارس الجنون على طريقتها الخاصة، تجد منهم من يريد إثبات أنه على حق فيذكر عدداً ضخماً من الكلمات، مع تكرار كلام غير مفهوم، ونحت مصطلحات لا يعرفها غيره حتى يظن المتلقى أنه فاهم لما يقول، على طريقة قصة «الملك عريان» الذى ظن الناس أن أحداً لن يرى ملابسه إلا الأذكياء، فخاف الجميع من تبيان غبائهم المزعوم.. هذا النوع من النخبويين يملأ الصحف. وهناك آخرون يقدمون افتراضات على أنها معلومات، أو يطرحون بديهيات على أنها اكتشافات، مثل قول د. محمد البرادعى منذ أيام: «العقل والعلم والقيم الإنسانية أقوى وأبقى من الجهل والإفك والقمع»، ثم أضاف: «ستذكرون ما أقول لكم». الرجل يذكر مُسلمات ويتعامل معها كونها نبوءات! «دراسة الحالة» التى تؤكد ما سبق من عالم اللامنطق، هى ما وقع منذ أيام، وكان بطولة «طارق حجى»، أحد من ألف كتباً فى نقد العقل العربى، فقد كتب على صفحاته بموقع «فيس بوك» منذ أيام ما يدعم صناعة الإنسان المجنون، والقصة أن مواطناً مصرياً (بغض النظر عن مهنته أو طبقته الاجتماعية)، صدم بسيارته مواطناً مصرياً آخر (بغض النظر عن مهنته أو طبقته الاجتماعية) فقتله. المواطن الأول كان يعمل فى الماضى رئيساً لإحدى شركات الإعلانات الشهيرة، والضحية ضابط شرطة، ويقول السيد حجى إن المتهم قتل ضابطاً شاباً أثناء تأديته لعمله، ويصف المتهم ب«الوكيل الحصرى لمعظم الإعلانات على الفضائيات» (وهذه معلومة غير صحيحة تماماً وتتناسب مع الحالة العامة للهيصة). وينتقد «حجى» الإعلام الذى «صمت على الجريمة».. ولأن الخبر انتشر بالفعل، فلا نعرف ما هو مقدار الحصة الإعلامية التى من المفترض أن تُخصص لهذه الواقعة من وجهة نظر السيد حجى. الموضوع عبارة عن حادثة سير عادية (مصر الأولى عالمياً فى حوادث الطرق، وفى «كل يوم» مر منذ وقوع الحادثة المذكورة وحتى قراءتك لهذا المقال، وقع -يومياً- ما متوسطه 41 حادثة سير، راح ضحيتها قرابة 40 قتيلاً وحوالى 136 مصاباً، وذلك تبعاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية). وبالتالى فما حدث ليس جريمة ذات أبعاد درامية أو بها سبق للإصرار والترصد ليسلط عليها الإعلام الضوء، وكان حرى بالسيد حجى أن يُطالب الإعلام بالاهتمام بالقضايا الحقيقية، ومنها حوادث الطرق، بدلاً من المطالبة بالاصطفاف للتركيز على حادثة سير واحدة، حتى لو كان الضحية ضابط شرطة، على اعتبار أنه -وكما يعلم السيد حجى- لا فرق بين مواطن وضابط إلا بالتقوى. فى كل الأحوال هى قضية قتل خطأ، تحدث كل يوم، ووزنها الإنسانى عظيم لأنها تتعلق بموت إنسان، لكن وزنها الإعلامى يستمد قوته فقط من كون المتهم شخصية عامة ليس أكثر. ولذلك تناقلت الجرائد والمواقع الحدث فى موضعه الصحيح، بصفحات الحوادث (بغض النظر عن التشويه الإعلامى الذى حدث للمتهم بادعاء أنه كان سكران، بينما تقرير الطب الشرعى نفى ذلك لاحقاً. كما أن ذكر الاسم الثلاثى له هو تشهير ينافى قاعدتى الإنصاف واحترام الخصوصية فى كتابة الأخبار). أضف إلى هذا أن المتهم محبوس بالفعل، ولم يذهب إلى بيته مثلاً. وبالتالى فقد سار القانون فى مجراه الطبيعى. الأمر كله كان إحدى حالات «الهيصة» من بطولة وإخراج أحد نقاد العقل العربى! الجماهير بطبيعتها تميل لاتباع سلوكيات الرجل البدائى (العاطفة الجامحة، وسهولة الانفعال، والمزاج المتقلب، والاستجابة للتحريض، واللاوسطية)، فهى، كتيار عام، لا تملك عقلاً نقدياً. ولذلك فمن السهل على الإعلام تحويل الموطنين الصالحين إلى مجانين، وللأسف فإن الأمر يشبه ظاهرة «الزومبى» فى أفلام الخيال العلمى، حيث لا زومبى يعود لبشريته مرة أخرى، بل يقوم بالانقضاض على آخرين و«عضهم» ليصبح الجميع مثله.. فإن لم تتوقفوا عن تحويل الناس لمجانين وزومبى، فسيأتى اليوم الذى يمارسون فيه جنونهم عليكم ويعضونكم.. فاستعدوا.