مصرف زراعى ملىء بالمخلفات ومياه الصرف الصحى والحيوانات النافقة، يشق مدينة «صان الحجر»، أعرق المدن التاريخية فى الوجه البحرى، مصرف «صفط»، الذى يعتبر سبب انتشار الأمراض والبعوض والروائح الكريهة، حيث يبدأ من مركز فاقوس ويمر بعدد كبير من القرى، ليشق مدينة صان الحجر وصولاً لبحيرة المنزلة، ويصب فيه عدد كبير من المصارف الأخرى، باعتباره المصرف الرئيسى فى تلك المدن. أهالى «الشرقية»: أنشأنا محطات صرف صحى فى «صفط» والدولة غائبة.. والمزارعون يستخدمون المياه فى رى أراضيهم أهالى هذه القرى اضطروا لإنشاء صرف صحى بالجهود الذاتية، جعلت هذا المصرف هو المصدر الوحيد لانتشار البعوض فى كل القرى المجاورة، ويسبب انتشار البعوض الكثير من الأمراض المعدية مثل «الملاريا والتيفويد والكوليرا والتيفوس والطاعون والدوسنتاريا والرمد والحمى الصفراء» وغيرها من الأمراض الخطيرة، الخطورة تمتد إلى الحشرات المنزلية المسببة للأمراض التى من الواجب مكافحتها كالذباب والصراصير والقمل والبراغيث، هذا المصرف يعتبر المصدر الوحيد لرى ما يزيد على 45 ألف فدان بداية، خصوصاً أن هذه الأراضى لا تصل إليها مياه النيل سوى فى فصل الشتاء فقط، ويمارس عدد كبير من الصيادين نشاطهم بالصيد من هذا المصرف. يتسلل أذان الفجر إلى أذن عم أمين، 60 عاماً، حيث يستيقظ ليؤدى الصلاة فى جماعة وسط جيرانه بمدينة صان الحجر بمحافظة الشرقية، ينتهى عم «أمين» من صلاته ثم يتوجه إلى مصرف «صفط» الذى يشق مدينة صان الحجر، يدعو ربه بأن يوسع عليه الرزق فى بداية اليوم، يدفع قارب الصيد نحو الماء العكر رويداً رويداً، حتى يجرى فى الماء، بعد دقائق يُنزل الرجل شباكه فى العمق، وكله أمل أن تمتلئ بالأسماك عند سحبها مرة أخرى، غير أنه يصاب بالصدمة عند رفع الشباك، إذ تلتقط الشبكة عدداً قليلاً من أسماك تنهش فى أجسامها طفيليات وديدان مميتة. طبيب: اكتشفت حالات مصابة بأمراض خطيرة بسبب الناموس والحشرات التى يربيها المصرف يعود «أمين» بعد نهاية يومه ب5 كيلو سمك لا يتعدى سعر الكيلو 6 جنيهات، بسبب ارتفاع تلوث مياه المصرف الزراعى بالمصارف الصحية التى قام الأهالى بفتحها فى المصرف الزراعى: «من 5 سنين أقل يوم كان ربنا بيرزقنى 20 كيلو سمك من المصرف ده، كانت مستورة والحمد لله، أنا بقالى 30 سنة بصطاد من المصرف ده بس اللى شفته السنتين الأخيرتين ماشفتهوش قبل كده، الزبالة بقت مالية الميه، وأهالى كل العِزب عملت صرف صحى على حسابهم وبيصرفوا فى المصرف الزراعى». يشكو عم «أمين» من ارتفاع نسبة التلوث فى المصرف الذى أصبح مصدر الزرق الوحيد له: «عندى 5 بنات جوزتهم كلهم، بفضل ربنا والمصرف ده، والحمد لله إنى جوزتهم قبل الحال ما يقف والدنيا تكون صعبة كده، ماعتقدش إنى كنت هقدر أجوز بناتى فى الوضع الصعب ده، والحمد لله عايش على ستر ربنا، والرزق اللى ربنا بيبعتهولنا بعيش عليه أنا ومراتى». على جانبى مصرف صفط، الممتد من فاقوس حتى بحيرة المنزلة، تقع قرى وعِزب يعمل أهلها فى مهنة الزراعة، أما عن أبنائهم الشباب فمعظمهم يعملون فى مهن المعمار مثل البناء والمحارة فى المحافظات المجاورة مثل بورسعيد والإسماعيلية، أما كبار السن الذين يعيشون حول هذا المصرف فيعتمدون على الزراعة لتوفير لقمة العيش، مصرف صفط كان هو مصدر سعادتهم وبؤسهم فى نفس الوقت، بعد أن تحول من نعمة رزق آمن إلى نقمة بسبب زيادة معدلات التلوث فى المياه التى يعتمدون عليها بشكل أساسى فى رى محاصيلهم الزراعية، إضافة إلى انتشار الأمراض التى تنهش أجساد المزارعين، وتحيلهم إلى سن التقاعد المبكر ضمن صفوف المرضى المزمنين، قبل أن يصل عمرهم إلى سن الستين. بقامته النحيفة وعيونه الغائرة ووجهه الذى تظهر عليه علامات المرض، يقف «إبراهيم مقبل» الرجل الأربعينى يتحدث ل«الوطن» بأسى: «مياه النيل لا تصل إلينا، علشان كده بنعتمد على رى كل أراضينا من مياه الصرف الزراعى الموجودة فى مصرف بحر صفط، زمان كنا بنشرب من مياه البحر دى، كانت نضيفة فعلاً، لكن دلوقتى كل العزب الموجودة على المصرف أنشأت خط صرف صحى فى البحر، وده طبعاً خلى الميه الموجودة فى المصرف الزراعى زى ميه بحر البقر بالظبط، ميه المجارى خلت الناموس بقى موجود فى الشتا زى الصيف ويمكن أكتر كمان». «إبراهيم» يشكو الناموس الذى يؤرق حياته: «الناموس مابيخليناش ننام طول الليل، ابنى الصغير الناموس أكل وشه، ودرجة حرارته ارتفعت وديته للدكتور قالى إن عنده حمى بسبب الناموس». ينظر الرجل الأربعينى إلى المياه التى تبدل لونها ويقول: «زمان لون الميه دى كان أزرق وكنا بنشرب منها عند انقطاع مية الشرب، وكمان بنسقى بيها المواشى، لكن دلوقت خلاص بقت الميه كلها مجارى وملوثة، والمواشى بترفض تشرب منها، لو مية الشرب قطعت أسبوع نموت من العطش إحنا وحيواناتنا». «كل الأراضى هنا بتشرب من مية الصرف الزراعى المخلوطة بالصرف الصحى، وده خلى أمراض كتير تنتشر فى المحاصيل الزراعية التى نقوم بزراعتها فى أراضينا زى الأرز مثلاً، اللى بيموت لأن مية الرى مالحة، إضافة إلى أنها مخلوطة بمية الصرف الصحى اللى كلها ديدان وحشرات»، بتلك الكلمات يعبر «إبراهيم» عن مطالبته بسرعة إيجاد حلول جذرية لمشكلة المياه المخلوطة بالصرف الصحى، لما يتسبب له وللفلاحين فى المنطقة من أمراض تهدد حياتهم، خصوصاً أن هذه الأمراض يتم نقلها من خلال البعوض الذى يتخذ هذه القرى وطناً له. مصطفى العزبى من قرية «الزمامته»، إحدى القرى التى أنشأت محطة صرف صحى بالمجهود الذاتى وتصرف مخلفاتها فى المصرف الزراعى، يتفق مع سابقيه: «بيوتنا غرقت فى مياه المجارى ولم تهتم بنا الدولة إطلاقاً، ولم تنشئ لنا الصرف الصحى، وتقدمنا بشكوى للمسئولين فى وزارة الصحة وهيئة مياه الشرب والصرف الصحى ولكن لم يستجب لمطلبنا، فقررنا عمل هذا المصرف بالمجهود الذاتى وصرف المياه فى أقرب مصرف زراعى». «الوحدة المحلية معندهاش غير جرار واحد بس ينزح الهوارب، والجرار ده مابيجيش خالص، لأن البلاد والعزب كتيرة ولن يستطيع أن يلبى احتياجات الناس فى كل المناطق دى»، كذلك يوضح «مصطفى» المعاناة: لو جه الجرار فى مرة مابيجيش 30 مرة، وبيفضى الميه فى أقرب مصرف زراعى، الناموس هنا منتشر جداً ومالى المكان فى الصيف والشتاء، والسبب هو مية المجارى اللى بنصرفها فى المصارف الزراعية، لكن هنعمل إيه معندناش حل تانى، الدولة لم توفر صرف صحى سليم وبيوتنا غرقت فى مية المجارى وماكانش فيه حل غير عمل الصرف الصحى بالجهود الذاتية». محمد نوفل، أحد سكان مدينة صان الحجر، يشكو هو الآخر من المصرف: «المصرف الذى يشق المدينة يعتبر أكبر مصدر لإصابة المواطنين بالأمراض، كمان هو السبب فى انتشار الناموس اللى هيموتنا، فى الشتا ماكناش بنشوف الناموس ده خالص لكن دلوقتى بقى موجود صيف وشتا، لأن مجلس المدينة ترك هذا المصرف بدون تغطية». «تقدمنا بشكاوى كثيرة جداً للمسئولين لكنهم لم يستجيبوا لنا وتركوا بلدة من أعرق البلدات فى مصر يعانى أهلها من الموت بسبب انتشار الناموس الذى ينقل الأمراض المعدية والخطيرة»، كذلك يؤكد «نوفل»: بطالب كل مسئول ييجى يزور صان الحجر يبات فيها ليلة واحدة وهنشوف هيقدر يكملها ولا لا، لا بد من سرعة تغطية هذا المصرف ومنع الناس من أنهم يصرفوا فيه الصرف الصحى وإيجاد حلول بديلة لهم. الدكتور يحيى النجار، طبيب وصاحب عيادة قريبة من مصرف صفط، يؤكد أن هناك عدداً كبيراً من الأمراض تصيب المواطنين فى هذه المناطق بسبب انتشار البعوض: انتشار مياه الصرف الصحى فى المصارف الزراعية والترع يعتبر أفضل بيئة يعيش فيها البعوض «الناقل الرئيسى» للكثير من الأمراض السارية. «بالفعل اكتشفت عدداً من الحالات المصابة بالأمراض التى يعتبر البعوض هو السبب الرئيسى فيها، مثل الحمى الصفراء، والدوسنتاريا، والتيفوس»، كذلك يوضح الطبيب: هناك أمراض خطيرة ومعدية يتسبب فيها البعوض كالملاريا والكوليرا والتيفوس والطاعون والرمد وغيرها من الأمراض الخطيرة، بل إن خطورته لا تقتصر عليه فحسب بل على الكثير من الحشرات المنزلية المسببة للأمراض، التى من الواجب مكافحتها كالذباب والصراصير والقمل والبراغيث. «النجار» يشير إلى أن سبب انتشار البعوض فى هذه البلاد يتلخص فى انتشار القاذورات والنفايات والمستنقعات والمياه الراكدة وجثث الحيوانات المتحللة التى يلقيها الناس فى المصارف، إضافة إلى صرف مخلفات الصرف الصحى فى المصارف الزراعية المكشوفة، التى تهدد حياة المواطنين، فى غياب تام من الجهات المعنية بمنع تلك المخالفات. من جانبه، يقول المهندس الزراعى، السيد فهمى، إن مياه الصرف الصحى تحتوى على ميكروبات عديدة، خصوصاً المسببة لأمراض التيفود والباراتيفود والكوليرا والدوسنتاريا والنزلات المعوية، علاوة على الفيروسات المسببة للأمراض الخطيرة، لافتاً إلى أن العديد من المسببات المرضية الموجودة بالمياه يستمر نشاطها ومدة بقائها بالتربة إلى عدة أسابيع أو شهور، كما تنتقل تلك الميكروبات للمحاصيل المزروعة مما يزيد انتشارها وإصابة الإنسان والحيوان بها. «المزارعون يعتمدون على هذه المياه فى رى محاصيلهم بسبب عدم توافر مياه النيل التى لا تصل إلى هذه المناطق سوى فى فصل الشتاء فقط»، كذلك يوضح «فهمى»: الدولة قللت من مساحة زراعة محصول الأرز فى الشرقية بسبب عدم توافر مياه الرى، واعتماد المزارعين على رى محاصيلهم بمياه الصرف الزراعى المخلوطة بمياه المجارى. يتابع المهندس «فهمى»: محطة الصرف الصحى الخاصة بمنطقة أبولبن والصوفية، تصرف المياه فى هذا المصرف المخصص للصرف الزراعى، فتختلط المياه ببعضها ويستخدمها المزارعون فى رى محاصيلهم، وتسببت هذه المياه المخلوطة فى انتشار الروائح الكريهة وموت الأسماك وانتشار البعوض فى كل المناطق التى يمر بها المصرف.