عرفت مصر وسائل الإعلام المملوكة للدولة منذ القرن التاسع عشر، حيث صدرت صحيفة «الوقائع المصرية» فى ديسمبر من العام 1828، كصحيفة مملوكة للدولة المصرية فى عهد محمد على باشا، فيما بدأ بث الإذاعة اللاسلكية المملوكة للحكومة فى العام 1934، بعد نحو عقد من هيمنة الإذاعات الأهلية التجارية. ورغم تلك البداية الرسمية لوسائل الإعلام الشعبية، فإن مصر عرفت الملكية الخاصة لوسائل الإعلام بشكل واسع، خصوصاً خلال النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تبدأ حقبة هيمنت فيها الدولة على كافة أنشطة الإعلام منذ مطلع الستينات من القرن نفسه. ومع اندلاع ثورة يناير 2011، كانت المنظومة الإعلامية المملوكة للدولة المصرية قد صارت شديدة الضخامة والاتساع من جهة، وانطوت على كثير من جوانب العوار والفساد والخلل من جهة أخرى. فلم تستطع تلك المنظومة أن تصبح مصدر اعتماد رئيسياً للجمهور المصرى على مدى العقدين الأخيرين، وبالتالى فقد عجزت عن الوفاء بأحد أهم أدوارها، بسبب تفاقم الفساد فيها، وإخفاقها فى الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة، وارتهانها لمصالح نخبة ضيقة فى الدولة/الحكومة/الحزب الحاكم فى النظام السابق، إضافة إلى عدم قدرتها على مواكبة التغيرات الكبيرة التى طرأت على الفضاء الإعلامى الإقليمى والدولى، وافتقادها الإطار المؤسسى، وعدم خضوع أدائها لأى نوع من التقييم أو ضمان الجودة. إضافة إلى ذلك، فإن تلك المنظومة باتت مثقلة بديون تبلغ نحو 29 مليار جنيه مصرى، ويعمل بها نحو 70 ألف إعلامى وعامل وإدارى، ينشطون فى مؤسسات ضخمة متكاملة، تتمركز فى أفضل مفاصل الصناعة، وتحمل أسماء تجارية وفنية براقة وعريقة، وتنطوى على أصول مادية ومعنوية ضخمة. ولأن تلك المنظومة تنطوى على استثمارات مجتمعية ومالية كبيرة، وتحظى بهذا التاريخ العريق، وتمتلك أدوات الصناعة المتكاملة، وتتمتع بالتمركز الجيد، فإن الديون الضخمة، والتراجع المهنى الحاد، كلها عوامل يجب أن تُعالج، سواء لأسباب اجتماعية تتعلق بحقوق العاملين، أو لأسباب سياسية تتعلق بالحاجة إلى استخدامها فى عملية بناء الدولة الجديدة، أو لأسباب اقتصادية بحتة تتصل بضرورة تفادى التفريط فى تلك الأصول فى أكثر أوقات تدنى قيمتها السوقية بفعل ما لحق بسمعتها من أضرار، وما تعرضت له من تجريف وفساد وسوء إدارة. إن المنظومة الإعلامية المملوكة للدولة فى حاجة إلى تغييرات جذرية، تحولها إلى نمط الخدمة العامة، وتحررها من الارتهان لسلطة أى حكومة، وتمكنها من التطور، ولعب دور فى حماية حرية التعبير، والمساهمة فى عملية التحول الديمقراطى. ولعل إنشاء هيئة تقوم بإدارة تلك المنظومة، بشكل يضمن لها الاستقلالية ويحافظ على المهنية، يمكن أن يكون خطوة فى الطريق الصحيح. لقد نصت المادة 216 من الدستور الجديد على إنشاء «الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام» بالفعل، لتقوم على «إدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة، وتطويرها، وتنمية أصولها، وضمان التزامها بأداء مهنى وإدارى واقتصادى رشيد». كان من المفترض أن ترتاح الجماعة الصحفية والإعلامية، والجماعة الوطنية بشكل عام لمثل ذلك النص الدستورى، لأنه يمكن أن يكون بداية لإصلاح أحوال تلك المؤسسات الصحفية والإعلامية، وضمان التزامها بخدمة المصلحة العامة، وتلبية احتياجات الجمهور، وترجمة اهتماماته، ومراعاة مصالحه، بشكل عادل ومتوازن. لكن أسباباً عديدة أدت إلى ارتياب وتوجس كبيرين لدى الجماعة الصحفية والوطنية حيال تلك المادة الدستورية. فقد أتت تلك المادة ضمن عدد من المواد الدستورية التى تتصادم مع مطالب ثورة يناير، وتضع قيوداً على حرية الصحافة والإعلام، وتوفر الغطاء اللازم لإخضاعهما لهيمنة السلطة. والأهم من ذلك أن الدستور تجاهل مطالب الجماعة الصحفية بضرورة النص على أن تتمتع وسائل الإعلام المملوكة للدولة بالاستقلالية التامة عن أى سلطة سياسية أو مصلحة حزبية، وأن تكون ساحة للحوار الوطنى بين كل الآراء والاتجاهات السياسية والمصالح الاجتماعية. يبقى أن الدستور لم ينص كذلك على ضرورة أن يكون تشكيل تلك الهيئة متوازناً، بحيث يعكس وجوداً متكافئاً لممثلى السلطات العامة من جهة، والجماعة الصحفية والإعلامية والمجتمع المدنى من جهة أخرى، وهو التشكيل الذى يضمن استقلالية تلك الوسائل فعلاً إن كان يُراد لها الاستقلال. حينما طرحنا فكرة إنشاء «الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام» كان الهدف من وراء ذلك ضمان استقلالية وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وتهيئة الأجواء لعملية إصلاح شاملة لها، تضمن استدامتها وتطويرها والمحافظة على حقوق العاملين فيها، لكن ما يبدو حتى هذه اللحظة أن السلطة الحاكمة تريد خطف تلك الوسائل مجدداً، لاستخدامها فى معاركها السياسية كأداة دعائية، بدلاً من أن تكون صوتاً للوطن والمواطن وسنداً لكل من لا سند له.