اعتادت واشنطن على مدى ما يقرب من قرن كامل، على امتلاك "يقين امبراطوري"،كان يبشرها بإمكانية أن تصبح سيدة العالم، وبأن تسيطر على إرادة الفعل فيه، وتمكنت أمريكا بأدوات القوة الناعمة، بالسينما وبالجامعات وبالطب وبالسلاح وبالتقنيات المتطورة، من إقامة أعتى إمبراطورية عرفها التاريخ الإنساني،أنجزت سيطرة شبه كاملة على كوكب الأرض، ثم راح أحد آخر رؤسائها( بيل كلينتون) يتحدث قرب انتهاء ولايته، عن السيطرة على القرن الأول من الألفية الثالثة، منتقلا بمعنى السيطرة بالمفهوم الامبراطوري القديم، من السيطرة على خرائط مساحية، الى السيطرة على خارطة الزمن ذاته. لكن لحظة التنحي الامبراطوري حانت بأسرع مما تخيل كلينتون، رغم محاولات خلفه جورج بوش الابن، ورغم انتشار القوات الامريكية فوق مساحات هائلة في الشرق الاوسط وجنوب اسيا في عهده، اثر هجمات سبتمبر، وها نحن في منتصف الفترة الرئاسية الثانية للرئيس اوباما، لا نرى سوى " أعراض إنسحابية" تعاني منها أمة أدمنت القوة وسيطرت على أدواتها. في مستهل رئاسة اوباما، ركز الرجل على استعادة الزخم الأخلاقي للامبراطورية الامريكية، وقبل عامه الثاني في الرئاسة، تحدث في مستهل الأزمة الليبية،عن "القيادة من مقعد خلفي" ليس زهدا في القيادة ولا ترفعا، وانما لتجنب خسائر محتملة، وللقبول بجوائز متواضعة في المقابل،وما ان انتصفت حقبته الرئاسية، حتى تحدث عن "الشراكة الأمامية" أي أن واشنطن التي أصابها "عار امبراطوري" لتراجع مساهمتها في الشأن الدولي جنوبي أوروبا، عادت تفضل الجلوس في مقعد أمامي، ولكن ليس أمام مقود القيادة، وأخيرا وفي الربع الأخير من فترتيه الرئاسيتين( العام السادس)، عاد اوباما ليكتشف استحالة كسب الحروب من الفضاء، وحتمية النزول على الأرض، فراح يطالب الكونجرس - الذي انتزعه الجمهوريون قبل اسابيع- بتفويضه لمدة ثلاث سنوات لاستخدام القوة، بما في ذلك ارسال عناصر قوات خاصة الى منطقة الشرق الأوسط في الحرب ضد داعش. ادراك اوباما ، القادم من حقول النخبة الليبرالية الأمريكية المثقفة، لحقيقة أنه يقود أمة في لحظة هبوط إمبراطوري، يريد أن يجعله ،هبوطاً آمناً، ربما كان وراء الكثير من قراراته في السياسة الخارجية الأمريكية، سواء تجاه روسياأ أو تجاه الصين، أو بإزاء كوبا، أو ايران، وكذلك تجاه ما جرى ويجري في اقليم الشرق الأوسط، الذي احتل موقع الصدارة في الاهتمامات الاستراتيجية الامريكية على مدى اكثر من ستين عاماً، لكن نظرية الهبوط الامبراطوري الآمن، ربما لم تبرهن على جدواها في حوادث التاريخ البعيد، ما لا يتيح استبعاد احتمالات سقوط مدو للامبراطورية- على الأقل- في اقليم أو أكثر، من هذا العالم الصاخب. أمريكا التي اصيب يقينها الامبراطوري بالوهن، أخطر على العالم كله، من أمريكا القوية ، العفية، القادرة، ويكمن أحد أهم مصادر الخطر، في تحولات قد يراها البعض مفاجئة في السياسة الأمريكية، وهي في ظني ليست كذلك، كالتحول تجاه ايران، حيث تجري صياغة سياسات تعايش بين واشنطنوطهران، قد تسدد المنطقة العربية الجزء الأكبر من فواتيرها، وكذلك كالتحول تجاه كوبا" الصغيرة جداً" وان تكن مؤثرة سواء في الداخل الامريكي، او حتى على الصعيد الاستراتيجي العالمي. البيت الابيض تحدث قبل ساعات عن فرص تفاهم "نووي" مع طهران ما تزال قائمة، ورد الرئيس الايراني، بدعوة مجموعة 5+1 الى انجاز الاتفاق الآن قبل فوات الفرصة، ايضا فقد وصف البيت الابيض الخلافات مع اسرائيل حول الملف النووي الايراني بأنها "كبيرة"، وأخيرا.. خلع اوباما أحد نعليه وقرر ان يضع قدما واحدة في مياه الحرب على داعش، في مبادرة اختبار لحرارة الصراع القادم، تعكس حذرا لا يليق بامبراطورية في مواجهة بعض عصابات الجريمة المنظمة، وان كانت تشير بالضرورة الى أمة فقد " اليقين الامبراطوري" وتفتش بهلع عن اليات "هبوط امبراطوري آمن" أو أقل صخباً.