أدت ثورات الربيع العربي إلى ممارسة بعض الضغوط لكي تتحول المسألة إلى أولوية دولية. في الأثناء، وجدت سويسرا نفسها - وهي التي كانت سباقة إلى اتخاذ إجراءات في هذا الإتجاه - مُضطرة لتعديل الكثير من إجراءاتها في محاولة منها لتلبية تطلعات الشعوب المعنية. يُجمع الكثير من المختصين على القول بأن ثورات الربيع العربي كان لها تأثير كبير ليس فقط في ممارسة مزيد من الضغوط على إجراءات إعادة الأموال المهربة المعقدة والطويلة الأمد التي كانت تنتهجها سويسرا بشكل رائد في هذا المجال، بل أيضا في فرض الموضوع كأولوية على طاولة المجموعة الدولية وبالتالي توسيع رقعة الدول المعنية بالمسألة وعدم الإقتصار على سويسرا وحدها. هذا أهم ما يُستخلص من مداخلة قدمها السفير فالنتان تسيللفيغر، مدير قسم القانون الدولي بوزارة الخارجية السويسرية، والمسئول عن ملف إعادة الأموال المهربة في سويسرا أمام الصحافة الدولية في جنيف يوم 4 يونيو 2014 في مناسبة تقييمه السنوي لتطورات هذا الملف. قامت سويسرا مباشرة بعد الإطاحة بنظام بن علي بتجميد الأموال المودعة في البنوك السويسرية في 19 يناير 2011، وتُقدر بحوالي 60 مليون فرنك سويسري. تم الدخول في تعاون قضائي من أجل استعادة هذه الأموال بين الحكومتين التونسية والسويسرية. وتبدي سويسرا ارتياحا لسير التعاون بين البلدين في هذا المجال. فتحت سويسرا من جهتها تحقيقا بخصوص تهمة غسيل أموال والانتماء الى عصابة إجرامية. وقام النائب العام الفدرالي بشكل استباقي بالإعلان في ربيع هذا العام عن إعادة 40 مليون من بين ال 60 مليون الى الحكومة التونسية. ولكن بما أن هناك شكوى استئناف ضد قرار الإعادة الاستباقية، لم يتم تسليم ال 40 مليون لحد الآن. ويعتبر رئيس القسم القانون الدولي بوزارة الخارجية السويسرية فالنتان تسيللفيغر " بأنه إذا ما تمكنا بعد انتهاء فترة الاستئناف، من إعادة اموال بن علي المحتجزة في فترة اربعة أعوام ، فإن ذلك سيشكل رقما قياسيا في سرعة إعادة أموال مجمدة، وهذا بالنظر لقضية إعادة 600 مليون فرنك من أموال الرئيس الفلبيني الأسبق فيرديناند ماركوس التي استغرقت 17 عاما". قامت سويسرا مباشرة بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك بتجميد حوالي 700 مليون دولار من أموال الزعيم المصري وعائلته. في ديسمبر 2012، قامت المحكمة الجنائية الفدرالية بإصدار قرار يرخص لسويسرا عدم تقديم المساعدة القضائية لمصر في تلك الفترة، وهذا بعد أن قام الرئيس مرسي بإقالة النائب العام بشكل مفاجئ. وهذا ما رأت فيه المحكمة الفدرالية عدم فصل بين السلط في مصر وبالتالي فإن المعلومات المقدمة للقاضي المكلف بالقضية قد تُستغل من قبل جهات أخرى. في ربيع هذا العام قام النائب العام الفدرالي بطلب بعض المعلومات من السلطات المصرية. وهو الطلب الذي لازال عالقا حتى اليوم. ويرى رئيس قسم القانون الدولي بوزارة الخارجية، استنادا الى تعاليق بعض الصحف " بأن التعاون في مجال استعادة الأموال، بقي مرهونا بالتطورات السياسية". قرار تجميد الأموال الليبية المودعة في سويسرا، تم بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وبالتالي لا يمكن لسويسرا أن تفصل في تلك الأموال لوحدها. وتقدر الأموال الليبية المجمدة في سويسرا بحوالي 100 مليون دولار. وبالنسبة للأموال السورية المقدرة بحوالي 130 مليون دولار فقد فرضت سويسرا حجزا عليها في عام 2011 وفقا لقرار عقوبات أصدرته دول الاتحاد الأوروبي . وبما أن النظام السوري مازال قائما ، فإنه من الصعب جدا الحصول على أي تعاون مع السلطات في هذا المجال إن لم نقل أنه من المتعذر والمستحيل الحصول على ذلك. بعد مغادرة الرئيس الأوكراني الرئاسة في 21 فبراير 2014، قامت الحكومة السويسرية في 26 فبراير باتخاذ قرار تجميد الأموال التابعة للرئيس يانكوفيتش ولمحيطه. دخول هذا القرار حيز التنفيذ بعد يومين من ذلك أي في 28 فبراير، يعلله رئيس قسم القانون الدولي بوزارة الخارجية السفير فالنتان تسيللفيغر " بضرورة التشاور مع باقي الساحات المالية التي كانت لها معاملات مالية مع أوكرانيا، والترتيب معها. وهو ما سمح لأول مرة باتخاذ قرار تجميد مشترك بين كل من سويسرا والنمسا وإمارة ليختنشتاين". وقد تلى ذلك قرار التجميد من قبل دول الاتحاد الأوربي في الفاتح مارس 2014، وذلك لأسباب ترجع للإجراءات القانونية الأوروبية. الأموال المحتجزة حاليا من قبل سويسرا في حدود 75 مليون فرنك سويسري، ولكن النائب العام الفدرالي أعلن عن مبلغ 140 مليون دولار. الفرق في الأرقام، يفسره المسئول السويسري عن قسم القانون الدولي بوزارة الخارجية " بكون النائب العام يحقق في قضايا أخرى لم تتوصل الحكومة السويسرية بالنتائج النهائية فيها". وقد فتحت سويسرا بدورها 7 محاكمات على المستوى الفدرالي في حق قادة اوكرانيين بتهمة غسيل الأموال واحدة تتم في جنيف حاليا. وقد تم مؤخرا تنظيم اجتماع حول موضوع إعادة الأموال الأوكرانية المهربة بمبادرة من بريطانيا. وهو ما يرى فيه السفير السويسري فالنتان تسيللفيغر" سابقة بحيث شاركت في الاجتماع جل الساحات المالية المعنية والدول المطالبة بإعادة الأموال وهذا في ظرف لم يتجاوز شهرين من سقوط النظام الأوكراني السابق". من التأثيرات الأولية لثورات الربيع العربي على إجراءات استعادة الأموال المهربة، تغيير في التسمية بحيث لم يعد الأمر يتعلق فقط باستعادة " أموال مسؤولين من ذوي السلطة" أو ما يُعرف بالفرنسية بعبارة "POTENTATS"، بل بعبارة "استعادة الأموال" فحسب. وفي معرض الشرح، أوضح مدير القسم القانوني بوزارة الخارجية السويسرية أن "الأموال الناتجة عن تعاطي الرشوة أصبحت اليوم منتشرة بكثرة ومتداولة بكثرة في المناقشات. وبالتالي قد يصعب على دبلوماسي الخوض في نقاش من هذا النوع والحديث عن أموال مسؤولين في السلطة، لأن ذلك يقلقهم. لذلك بحثنا عن تعبير مقبول ألا وهو (استعادة الأموال)". المسؤول السويسري يرى أيضا أنه وبالتزامن مع الربيع العربي، وبالأخص منذ ثورتي تونس ومصر، "أصبحت قضية استعادة الأموال المهربة موضوعا شائع التغطية في وسائل الاعلام. وهذا ليس فقط لأن شعوب هذه الدول ركزت على استعادة هذه الأموال منذ البداية، بل أيضا لأن عملية الرشوة قد اتخذت ابعادا كبرى لحد أن محاربتها كانت إحدى أسباب (اندلاع) هذه الثورات"، على حد قوله. وفي معرض الإستشهاد على قوله هذا، أورد المسؤول السويسري مُداعبة قابله بها أحد رجال الجمارك في تونس وهو عائد من زيارة للبلد، ليس لأنه تعرف على أنه مسؤول سويسري، بل لمجرد حيازته على جواز سفر سويسري حين قال له: "سأتركك تخرج إذا وعدتنا بالعمل على استعادة أموال الرئيس بن علي". التغيير في التسمية عائد أيضا إلى التطور الذي طرأ على التصرفات، إذ لم يعد الأمر يتعلق ب "الحاكم ذي النفوذ" وحده، مثل موبوتو (الزائير سابقا) أو آباشا (نيجيريا) مثلما كان من قبل، بل اصبح الأمر يمس حيزا أوسع من أعلى هرم السلطة وحاشية الحاكم وعائلته في البلد الذي يعاني من الرشوة والاختلاس ونهب الثروات. في الأثناء، يرى المسؤول السويسري أن من تأثيرات ثورات الربيع العربي أنها "المرة الأولى التي قامت فيها المجموعة الدولية بخطوة مشتركة لتجميد أموال الزعيمين المطاح بهما في كل من تونس ومصر، وبذلك لم يعد الأمر يخص سويسرا وحدها التي سارعت منذ عام 1986 إلى تجميد أموال مهربة، بل أصبحت قضية تمس كل الساحات المالية، وكل الدول متفقة على ضرورة معالجة هذا المشكل بشكل جماعي ومتعدد الأطراف". في هذا السياق، تم على مستوى مجموعة الثمانية تنظيم عدة لقاءات على مستوى المنطقة العربية لمعالجة موضوع إعادة الأموال. وقد سهر الاتحاد الأوروبي على تنظيم لقاء مع تونس وآخر مع مصر، كما جرى تنظيم لقاءين في الدوحة وفي مراكش شدد فيه مسؤولو الاتحاد الأوروبي على إعطاء الأولوية لموضوع إعادة الأموال المهربة. المسؤول السويسري عن قسم القانون الدولي بالخارجية رأى في هذه التطورات "اعترافا دوليا بموضوع لم يكن شائعا قبل ثورات الربيع العربي وكان يُنظر له على انه مشكل يقتصر على سويسرا وحدها"، وأعلن في السياق عن اعتزام الأطراف المعنية تنظيم لقاء ثالث حول إعادة الأموال العربية في جنيف في خريف العام الجاري غير أن الموعد لم يُحدد بعد. وعلى المستوى الدولي، تجدر الإشارة إلى أن معاهدة الأممالمتحدة المتعلقة بمحاربة الرشوة، مارست هي الأخرى بعض الضغوط حيث تم تشكيل لجنة خاصة تُعنى بمتابعة موضوع الأموال المهربة.