كلما بدأ شهر ديسمبر يبدأ معه الصحفيون والباحثون في دراسة حصاد العام، وخلال تلك الدراسة قد لا يتكرر أحد الأسماء أو الأحداث مرتين إلا نادراً. ولكن –وكما عوّدنا- فقد أثار الشاعر الكبير المتفائل الحاد الثائر "أحمد فؤاد نجم"، تلك المشاعر المتضاربة لدى كل من يراجع حصاد عام 2013 بين الحزن والفرح والفخر والغناء والاحترام والبكاء والضحك الشديد والتأمّل. فمنذ شهور قليلة تم تتويج العم نجم كأول مصري يحصل على جائزة الأمير كلاوس الهولندية وهي جائزة رفيعة المستوى لا يحصل عليها إلا من لهم دور حقيقي في تحريك الحياة العامة وتأثير واضح على الواقع. هذا وقبل أيام قليلة من لحظة تسلّمه الجائزة ودخوله القصر الملكي في هولندا، قرر العم نجم أن يفاجئنا كعادته ويمزح بنا ويقف بعيداً ويختفي كعادته تاركنا ننتظره دون أن يأتي أو يدلنا على مكان اختبائه. قرر نجم أن يشاهدنا من بعيد نبحث عنه في وجوه المارّة والحواري الضيّقة والأماكن العتيقة بعيداً عن القصور الملكية والأماكن الفخمة التي اعتاد الهروب منها والاختباء وسط الناس، وهذه المرة اختبأ منها ومن الناس وقرر أخيراً وداعنا إلى الأبد تاركاً المعتقل الكبير كما ترك المعتقلات الصغيرة من قبل. "حد يموت قبل اليوم ده يا إمام؟ حد يموت قبل ما يشوف العيال دي يا إمام؟ تعالى غنّيلهم هلّي يا شمس البشاير، تعالى غنّيلهم بهيّة يا إمام" قالها يوم 11 فبراير 2011 منادياً رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، بعد انتهاء بيان تنحّي حسني مبارك عن الحكم بعد 18 يوم من بداية الثورة الشعبية في 25 يناير، ثم بكى العم "نجم" وهو من لم يعتد البكاء سواء بين جدران السجن أو في الحوش ولا في أحلك أوقات الفقر والتعب اللذان كانا ضريبة رأيه و"فاجوميّته" وهجومه الدائم على السلطة. لم يكن يعرف أبو النجوم أننا سنصيح به نفس الصيحة في النصر القادم والانتصارات التي ستتوالى بعده، والتي وعدنا بها قائلاً "والنصر قرّب من عينينا"، و"بُكرا ورد الأرض يملى إيدين ولادنا"، لم يكن يعرف عم احمد أننا سنبكي كلما انتصرنا أو انهزمنا لأننا سنبحث عنه إما لتهنئتنا أو للشد من أزرنا، سنبحث عنه ليقول لنا "كُل ثورة واحنا دايماً فرحانين" أو ليبلغنا أن "محلا القصايد في الشدايد والغُنا". الغريب في الأمر هو صدمتنا برحيل رجل يبلغ من العمر 84 عام في الوقت الذي يسقط فيه الشباب حولنا مئات المرات يومياً في بلادنا والبلدان المجاورة، وكأننا لم نكن نتوقع أن زعيم محبّي الحياة سوف يتركها، أن نجم الذي مرّ عليه كُل عوامل القتل المادي والمعنوي ولم تقتله، سوف يموت. لم يقتله التعذيب في المعتقل ولم يقتله رصاص الأمن في فض الجموع ولم يقتله تأخّر الحلم والأمل الذي بشّر وعاش له، لم يقتله كثرة الترحال ولم يقتله موت أصدقاء عمره ورفاق دربه ولم يقتله أعداء القضية والتكفير والظلم والقسوة. الحقيقة أن دهشتنا هذه هي الأمر المحزن، كلنا رددناها سوياً "عم نجم مات يا جماعة"، وكلنا أخبرنا أصدقائنا بها كي نصدقها، كلنا رأينا أنفسنا داخل صندوقه الخشبي الذي حملناه في مسيرة شعبية من مسجد سيّدنا الحسين إلى المقابر، تلك المسيرة التي انضم لها المئات من المارة والسكان بمجرد أن عرفوا أن عاشقهم المؤمن بهم هو من يتقدم المسيرة. وها هو العم نجم يقف بعيداً في مكان دافئ وينظر إلينا نرتجف من البرد في هذه الأجواء ويبتسم ليكرر وعده لنا بأن الدفء قادم، والنصر قادم، والفرح قادم، والحياة لا تنتهي بل تتعدد بداياتها يوماً بعد يوم كما كان يقول دائماً مراهناً على قدرة الناس والجموع في تدفئة بعضهم ومواساة بعضهم وانتزاع سعادتهم من قلب الإحباط، ستفتقدك مصر يا عم نجم، ستفتقدك فلسطين يا عم نجم، ستفتقدك الجزائر يا عم نجم، ستفتقدك تونس يا عم نجم، ستفتقدك سوريا يا عم نجم، ستفتقدك العراق يا عم نجم، ستفتقدك المغرب يا عم نجم، ستفتقدك لبنان يا عم نجم..... جائزة مباركة ورحلة موفّقة، ودائماً ترتفع رؤوسنا فخراً بك يا عمّنا العزيز.