في عام 2012 الذي يستعد للرحيل تفاقمت أزمة المكتبات العامة، واتخذت بعدا كونيا لا يميز بين بريطانيا أو الولاياتالمتحدة ومصر والعديد من الدول الأخرى. ففي هذا العام أغلقت أكثر من 200 مكتبة عامة في بلد كبريطانيا أبوابها، فيما انخفضت نسبة زوار المكتبات العامة في العام ذاته بنحو اثنين ونصف في المائة، حسب إحصاء رسمي نشرته صحيفة "ذي جارديان"، ولم يكن الحال أفضل في الولاياتالمتحدة حيث توالت تقارير صحفية كادت أن تكون بمثابة المرثية الأخيرة لهذه المكتبات التي تعاني بدورها من الإغلاق، فضلا عن المنافسة الشرسة من جانب الكتب الإلكترونية على شبكة الإنترنت. وعلى الرغم من كل الجهود التي بُذلت طوال العام حتى تستمر المكتبات العامة مفتوحة وتستقبل القراء ها هي المحصلة تبعث على الأسف، خاصة وأن معدل إغلاق المكتبات يتصاعد عاما بعد عام، فيما يقدر عدد المكتبات العامة في بريطانيا حاليا بنحو 4265 مكتبة بعد أن كان مجموعها يصل إلى 4612 مكتبة منذ عامين. وعلى حد قول اليسون فلود في صحيفة "ذي جارديان" فإن من المرجح هذا الاتجاه وزيادة عدد المكتبات المغلقة في العام المقبل على الرغم من أن نشطاء ثقافيين يشنون حملات مكثفة للحيلولة دون استمرار هذا الاتجاه الذي يهدد في نظرهم التراث الثقافي لبريطانيا. والغريب أن يتزايد معدل إغلاق المكتبات العامة في بلد كبريطانيا رغم أن نسبة المتطوعين للعمل في هذه المكتبات، وخاصة تلك المكتبات التابعة للمجالس المحلية تتزايد حسبما توضح الاحصاءات. وأهم سبب لهذه الظاهرة المؤسفة يرجع إلى سياسات التقشف، واتجاه السلطات المحلية لخفض نفقاتها، رغم أن جمعية المكتبات الكبرى في بريطانيا لاحظت أن المكتبة العامة لم تعد مجرد مقصد لاستعارة الكتب، وانما هي ملتقى ثقافي بامتياز، ومكان للقراءة والبحث والتفاعل وتكوين صداقات بين القراء تبدد العزلة التي يعانى منها الإنسان الغربي المعاصر في زمن ما بعد الحداثة. وفى سياق استنكاره لتصاعد ظاهرة إغلاق المكتبات في بريطانيا يقول الكاتب المسرحي بيلي ايليوت: "لقد ناضل الرجال والنساء جيلا بعد جيل من أجل الحق في القراءة والنمو الثقافي والفكري والاجتماعي"، مضيفا :"إنه تراث تراكم عبر عقود وعقود حتى أثمر، وها هو الآن مهدد بالضياع". واعتبر بيلي ايليوت أن إغلاق المكتبات يعني ازدراء الثقافة وإفقار الفكر، فيما كان الكاتب المصري الراحل محمد مستجاب قد لمس منذ سنوات أزمة القراءة والمكتبات العامة في مصر، مؤكدا على أن ثمة حاجة واضحة لخلق نوع من الألفة بين الناشئة والشباب وبين الكتاب عموما، والكتاب الثقافي على وجه الخصوص، فيما لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تفرض البيروقراطية سطوتها على المكتبات العامة لتتحول إلى مجرد مخازن للكتب أو "عهدة يخشى أمين المكتبة من ضياعها". فالقضية كما أشار الراحل مستجاب بلغته الساخرة والمحببة ليست مجرد وجود مكتبات عامة بقدر ما هي مدى قابليتها للقيام بوظيفتها الثقافية، بعيدا عن اللافتات أو احتفاليات افتتاح المكتبات، وفى هذا السياق فإن المكتبات العامة في المناطق الشعبية والريفية لا تحتاج فقط لقراء من الأجيال الجديدة، وإنما هي أيضا بحاجة لإدارات ذات وعي بأهمية القراءة والفهم والمناقشة. وإذا كان من الواضح لكل ذي عينين أن أزمة المكتبات العامة كما رصدها محمد مستجاب منذ سنوات مازالت مستمرة إلى حد كبير فعلى هذه المكتبات أن تفتح أبوابها لجمهور القراء في مواعيد مناسبة للقراء مع الأخذ في الاعتبار بأن ممارسة القراءة الحرة للطلاب تكون خارج إطار الروتين المدرسي وتزداد كثافة في الأجازات الأسبوعية والموسمية. فالمكتبات العامة "كبيوت دافئة للقراءة" لها أن تراعي متطلبات وظروف القراء، وأن تتحرر بعض الشيء من القواعد البيروقراطية الجامدة لتتحول إلى مؤسسات فاعلة ذات تأثير إيجابي، لا مجرد عهدة حكومية كلما قل استعمالها قلت أخطار تبديدها، ويتمنى القائمون عليها ألا يمس كتبها أحد"!. ويبدو أن هناك حاجة لاستعارة المفهوم الذي تتبناه جانين كوكس رئيسة جمعية المكتبات الكبرى في بريطانيا حول الأدوار الجديدة للقائمين على إدارة المكتبة العامة حيث باتت هذه الأدوار ذات طابع تفاعلي ودينامي مع الزوار بعيدا عن سلبية الاكتفاء بالدور البيروقراطي أو تعليمات اللوائح القديمة للمكتبات العامة. إنه مفهوم "المنافع الاجتماعية للمكتبات العامة"، كما تسميه ميراندا مكيرني رئيسة هيئة تشجيع القراءة في بريطانيا، وهو مفهوم قد يكون مفيدا في بلد كمصر، حيث تواجه حتى المكتبات الخاصة للشخصيات الثقافية الرفيعة المستوى مشاكل جمة في حالة الوفاة أو المرض. فقد أوضحت الإعلامية كريمان حمزة أن مكتبة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد شفاها الله وعافاها معرضة للضياع وتساءلت: "هل نترك هذا العمل الفني العالمي تأكله عوامل التعرية، معتبره أن هناك حاجة لجهة مصرية تعرف قدر صاحبة المكتبة وتحولها إلى "مركز اشعاع ثقافي سياحي عالمي" . وأعادت كريمان حمزة في طرح بجريدة الأهرام للأذهان أن الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي وصفتها "بالكاتبة والأديبة والشاعرة والفنانة والمناضلة" هي صاحبة ستين مؤلفا وثلاث موسوعات فيما سردت معالم هذه المكتبة الخاصة بتصميمها الفني الفريد بمزيج فرعوني وإسلامي والتي تحوي نفائس الكتب وكنوز التراث والحضارة الإنسانية على مر العصور. أمر مؤسف أن تكون أي مكتبة مهجورة متروكة أو مغلقة والكتاب في رفوف لا ترى ينادي لي من يستحق أن يضاء له المكان.. فهل من مجيب في مخاض العام الجديد؟!.