بعد الثورة كان أحمد أبوالفتح وإحسان عبدالقدوس وحلمى سلام أقرب إلى عبدالناصر منى قابلت عبدالناصر فى حرب فلسطين ووجدته ساخطا على الصحافة لأنها تنشر أخبارا غير صحيحة عن الحرب الوطن كله صار على المحك.. الثقافة والفكر تحديدا فى مهب الريح.. جحافل التضييق والقولبة تزأر فى عنف وكراهية.. المشهد شديد القتامة والريبة.. الأمر إذن يحتاج إلى «حكيم» نستقطر من كلماته «روشتة الخلاص».. و«نورا» يتقدمنا لاقتحام ذلك النفق المظلم الذى استطال بأكثر مما يجب.. والأمر أيضا يحتاج إلى «مرجعية» نعود إليها لنبحث لديها عن «بوصلة الاتجاه» الصحيح.. ورشد ورشاد التوجه المستنير.. وفى هذا الظرف الضاغط.. فإن الحكمة والمرجعية يتجسدان فى شخص أستاذنا محمد حسنين هيكل.. ولأن الأمر أعمق وأصعب من كونه «أزمة سياسة».. ولكنه «أزمة ثقافة وهوية».. فقد حسمنا أمرنا، وقررنا أن نتحاور مع الأستاذ حول الثقافة والفكر والأدب والإبداع.. * تؤكد كل المعلومات على أن عبدالناصر كان قارئا ومثقفا.. ويستدل على ذلك بقائمة استعاراته من مكتبة الكلية الحربية.. فكيف كانت علاقات التأثير والتأثر بينكما فى مجال الثقافة؟ - الأستاذ: عندما قابلت عبدالناصر يوم 18 يوليو تناقشنا فى أشياء كثيرة.. وعندما نزلنا من منزل اللواء محمد نجيب وجدت لديه رغبة فى استكمال النقاش.. فطلبت أن نذهب إلى الأخبار، فرفض عبدالحكيم عامر -وكان معنا- بحدة.. فسألتهما هل تذهبان إلى بيتى فوافقا على الفور.. فركبنا سيارتى.. لأن سيارة عبدالناصر «الأوستن» كانت معطلة.. وكنت أسكن فى 14 شارع شجرة الدر بالزمالك فى عمارة دار الهناء.. ولا أزال حتى الآن أتذكر ملابس عبدالناصر وهو جالس بجوارى فى السيارة «بنطلون رمادى وقميص أبيض».. وجلس عبدالحكيم فى المقعد الخلفى للسيارة.. ووقتها لم أكن قد تزوجت بعد.. ورغم ذلك كان بيتى مرتبا.. وكان يعمل معى سفرجى «هايل».. مات منذ عام واحد -الله يرحمه- وكان البيت مليئا بالكتب التى كنت آتى بها من سفرياتى المختلفة لرغبتى الشديدة فى القراءة والاطلاع «وحتى الآن الكتب جزء مهم فى كل بيت أذهب إليه فى الإسكندرية، فى الغردقة، فى المنزل الريفى فى برقاش». المهم عندما دخل عبدالناصر إلى البيت تفحص كل أركانه، ثم سألنى: أنت أرستقراطى؟ -فقلت له : أبدا.. وبدأنا نتحدث، لنكمل ما كنا قد بدأناه فى بيت محمد نجيب ثم فى السيارة.. وبعد الثورة كان أحمد أبوالفتح وإحسان عبدالقدوس وحلمى سلام أقرب إلى عبدالناصر منى.. ولكن سرعان ما تقاربنا؛ وذلك لأنه اكتشف أننى أملك الكثير عن خلفية الصراع بعد قراءاتى عن حرب فلسطين وما بعدها.. كما أنه كان يمتلك رؤية فى كيفية الدفاع عن مصر.. وأن هذا الدفاع لابد وأن يبدأ شرقا.. ولذلك كان الوطن العربى شديد الأهمية بالنسبة له.. واكتشف عبدالناصر أثناء النقاشات التى كانت تدور بيننا أننى أعرف الوطن العربى جيدا.. فقد أتاح لى عملى كمراسل أن أمر على الوطن العربى «ركن.. ركن وبلد بلد».. ذهبت إلى فلسطين.. وبيروت.. والشام؛ ولذلك تلاقت اهتماماتنا، ووجدنا أن بيننا الكثير من المشتركات.. وتحديدا المعرفة المشتركة، وهذه المعرفة فى جوهرها «ثقافة».. وبشكل عام فالثقافة هى المحصلة النهائية للتعليم والتربية الأسرية.. فالإنسان ينتقل ما بين الأسرة، ثم التعليم المنظم، ثم التجربة العملية، ثم مراقبة الحياة ومتابعتها لسنوات طويلة.. وحصيلة كل هذا هو ما نسميه الثقافة.. فهى حصيلة كل المعارف التى تتوافر للإنسان.. من خلال معايشة الحياة.. ومعايشة التاريخ.. ومعايشة الزمن.. ولذلك فمن الخطأ أن نتصور أن الثقافة هى الفن فقط.. أو هى الرسم فقط.. أو المزيكا فقط.. أو الأدب فقط- إلخ.. ونعود إلى عبدالناصر فقد تكلم مع كثيرين غيرى.. وحتى كتاب «فلسفة الثورة» كان من المفترض أن يكتبه الأستاذ فتحى رضوان، والذى تقدم بمشروع أولى للكتاب.. ولكنه كان بشكل أو بآخر مختلفا عما يريده عبدالناصر.. وعندما جاءنى كتاب فلسفة الثورة جاءنى لأن عبدالناصر اكتشف أن بيننا الكثير من المشتركات والاهتمامات، وظن أننى قد أستطيع التعبير بدقة عن أفكاره.. وعلى مر السنوات الماضية كثيرا ما كنت أسأل نفسى: هل أثرت فى عبدالناصر.. أم هل تأثرت أنا به.. والحقيقة أن الأمور لا تقاس بمثل هذا المقياس؛ لأن الأساس فيما ربط بينى وبينه هو «العلاقة الإنسانية».. ولذلك فأنت لا تستطيع أن تحدد فى هذه العلاقة من ساهم بماذا، وكيف كانت هذه المساهمة؟. فالعلاقات الإنسانية التى تنطلق من الصداقة تقوم على الحوار المستمر، الذى لا ينقطع، وبذلك فطرفا العلاقة بينهما علاقات تأثير وتأثر بشكل دائم.. والحوادث تربط بينهما بشكل مستمر.. وعندما تأتى أنت الآن لتقول إن عبدالناصر اختارنى أو «اصطفانى» لكى أصيغ أفكاره فى كتاب فلسفة الثورة.. فهذا ربما يكون غير صحيح؛ لأن ما حدث أننى كنت قريبا من أفكاره.. وهذه المسألة لا تأتى بالاحتراف.. ولكن تأتى بالقرب والتقارب فى الفكر.. فمن قبل فلسفة الثورة كنت أحتك بعبدالناصر. * نعود إلى الثقافة وعلاقة التأثير والتأثر مع عبدالناصر؟ - الأستاذ: كنا نتحدث كثيرا فى التاريخ وفى الأدب والشعر.. وقد قرأ عبدالناصر كثيرا فى التاريخ.. خاصة فى التاريخ العسكرى.. فعندما كان يعد رسالته «أركان حرب»، وهى تعادل رسالة الماجستير، كان موضوعه الدفاع عن مصر، وكان متأثرا بنظرية اللورد اللنبى.. وبشكل عام فقد كان قارئا جيدا للتاريخ.. وللاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية بشكل خاص.. وأذكر أن عبدالناصر كان دائم الترديد لبيت من الشعر يقول: خلت الرقاع من الرخاخ ففرزنت فيها البيادق واستطال الأعبد بمعنى أن رقعة الشطرنج لم يعد بها شىء إلا العساكر، (هذا البيت من قصيدة «الحبس» للشاعر الفلسطينى سعيد الكرمى 1852 - 1935). والأهم من المناقشات والحوارات التى كانت تجمعنى بجمال عبدالناصر.. أن علاقتنا تطورت إلى صداقة حقيقية.. لها خلفية، ولها منطق تتحرك فيها.. ولها الموضوعات التى نتناقش حولها.. وفى الصداقات الحقيقية يجب ألا تعجزك الموضوعات.. ولا يرهقك الصمت.. بمعنى أن الصديقين إذا جلسا معا من دون أن يتكلما فإن هذا الوضع لا يمثل أى أزمة، لأن التواصل الروحى بين الأصدقاء أكبر وأقوى من أى تواصل.. والصداقة الحقيقية لا تعرف التكلف، ذلك التكلف الذى يدفع كل طرف إلى إعطاء صورة مزيفة عن نفسه.. وإذا وجد هذا التكلف فسد كل شىء؛ لأن الصداقة تعنى أن يكون كل صديق على طبيعته تماما مع صديقه- يتحدثان وقتما يريدان ويصمتان وقتما يريدان «لا تعجزهما الموضوعات ولا يرهقهما الصمت».. على شرط ألا يؤدى الصمت إلى الوحشة أو الملل.. ورغم أنى عرفت أصدقاء كثيرين فى مصر وخارجها، وكان توفيق الحكيم من أقرب أصدقائى، لكنى طوال السنوات الماضية أشعر دائما بأن عبدالناصر «بيوحشنى» كصديق وليس كزعيم.. وفى التاريخ الحديث هناك علاقة صداقة أقرب لحالتى مع عبدالناصر، جمعت ما بين القائد الإنجليزى مونتجمرى، والزعيم الإنجليزى تشرشل. * فى حوار قديم مع الفنان فريد شوقى أخبرنى بأن عبدالناصر استدعاه أثناء معارك 1956، ليكلفه بعمل فيلم عن أحداثها.. وأن السادات قال له: لقد أبكيتنى بفيلم «لا تبك يا حبيب العمر»، وأن مبارك قال له: «كرشك كبر يا فريد».. فهل يصلح ما قاله فريد شوقى كقاعدة للتفرقة «ثقافيا» بين الرؤساء الثلاثة؟ - الأستاذ: ليس لى علاقة بتقييمات فريد شوقى.. ولكن كل رئيس منهم ابن مرحلته مع وجود الفروق الشخصية والاستعداد الذاتى للتعامل مع الثقافة ومفرداتها.. فعبدالناصر جاء وسط حركة للتحرر الوطنى وصار زعيما لها.. فهو موجود على الساحة وابن شرعى لها.. كما أنه رائد من رواد فكرة الوحدة، له رؤية وفكر وثقافة.. بينما أنور السادات كرئيس وليد لفترة تناقضات الحرب الباردة وما أدت إليه.. أما حسنى مبارك فهو وليد لفترة الهيمنة الأمريكية.. تلك الهيمنة التى ترسخت فى كامب ديفيد.. وليست الهيمنة الأمريكية فقط، ولكن هناك أيضا تزايد النفوذ السعودى فى المنطقة بحكم النفط والمال.. وبشكل عام فإن كل رئيس من الثلاثة عبر عن مرحلته.. مع مراعاة أن العمل العام يفرض عليك بأكثر مما تفرضه عليه.. وقدرتك تتحقق باستعمال المكونات المتاحة لك لتحقيق أهدافك.. تلك الأهداف التى يجب أن تنطلق من استراتيجية واحدة.. وهذا كان واضحا تماما مع عبدالناصر.. والذى أدرك أن الثقافة عنصر مهم من عناصر الاستراتيجية المصرية، التى تنطلق بالأساس من عروبة مصر.. حيث وحدة اللغة والامتداد الجغرافى.. والمؤسف أنه بعد عبدالناصر وجدنا من يقول «مصر أولا».. ومثل هذا الكلام لا يصح فى دولة بقيمة وقامة مصر.. فعندما تكون فى منطقة أنت جزء منها ثقافيا.. فكيف تقول إنك أولا أو حتى ثانيا أو ثالثا أو أخيرا.. لا يوجد. * نعود إلى ذلك «الدور الساحر»، أو الدور السادس فى الأهرام.. فهل تأثرت فى ذلك بأستاذك محمد التابعى الذى كان يجمع بين اهتمامه بالسياسة واهتمامه بالثقافة والفن؟ - الأستاذ: الأستاذ محمد التابعى كان مدرسة مختلفة.. فعندما تنظر إلى مراحل تطور الصحافة.. فأول مرحلة كانت مع رفاعة الطهطاوى، والذى اهتم بالترجمة.. والتى كانت وسيلة ربطنا بالعالم الخارجى.. ثم جاءت مرحلة محمد عبده ولطفى السيد وهى المرحلة التى اهتمت بتجديد الفكر الإسلامى، الشيخ محمد عبده يعبر عن روح العصر ولطفى السيد يبحث عن منابع الثقافة الغربية فى الفلسفة «الفلسفة الإغريقية بالتحديد».. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة صحافة الخطابة بداية من مصطفى كامل وحتى سعد زغلول.. وهى مرحلة العمل السياسى والفكر السياسى.. وأتذكر آخر خطبة ألقاها سعد زغلول وكانت فى شبرا، والتى قال فيها: «يعز علىّ أن أرى منبر الخطابة منصوبا ولا أستطيع له رقيا.. وأن أجد مجال القول واسعا ولا أجد له لسانا فتيا».. ولأننا كنا فى مرحلة طلب الاستقلال فكان من الطبيعى أن تلجأ الصحافة إلى الحجج القانونية والخطابية والبلاغية لتعبئة الرأى العام.. ثم جاءت بعد ذلك تجربة البرجوازية الصغيرة.. وهى صحافة تهتم بما قاله فلان وبما عملته فلانة.. وهى بشكل عام تهتم بالطبقة المتوسطة. * صحافة النميمة؟ - الأستاذ: ليست نميمة بالضبط.. وبعد دستور 1923، والذى انحاز لطبقة ملاك الأراضى.. اتجهت الصحافة إلى الثرثرة.. حتى دخلت الجيوش فى الحرب العالمية الثانية إلى مصر.. وبشكل عام ظلت الصحافة متأثرة بالخطابة والترجمة.. فعندما تقرأ المكتوب فى ذلك الوقت.. تجد العبارة الجزلة والتعبيرات الرصينة والسجع والجناس والطباق وكل المحسنات البديعية -حتى جاء الأستاذ التابعى بأسلوبه الساحر الذى وضع أسلوب السرد والحكاية.. وهى المدرسة التى تأثر بها بعد ذلك مصطفى أمين ويظهر ذلك جليا فى كتابه «ماذا جرى بين الوفد والقصر»، فالكتاب ملىء بالحكايات الفرعية المهمة، والتى تكون فى النهاية صورة متكاملة للأحداث.. المهم أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت مدرسة ما بعد الحرب وبدأت الأفكار اليسارية والاشتراكية فى الظهور.. وبدأ العالم يموج بأشياء كثيرة مما حتم تغير لغة الصحافة.. وهذا ما استطاع الأستاذ «التابعى» استثماره ليضع بصمته الخاصة على لغة الصحافة. وقد تأثرت بالأستاذ «التابعى» ولكنى احتفظت بأسلوبى الخاص.. وأذكر عندما رشحنى الأستاذ على الشمسى لرئاسة تحرير الأهرام أنى طلبت نسبة 5٫2% من الأرباح فرفض أصحاب الجريدة.. وقالوا إن الأهرام قد خسر كثيرا خلال السنوات العشر السابقة.. فقلت إن الأمر لن يكلفكم شيئا.. فإذا حققت أرباحا أحصل على 5.2% منها فوافقوا على مضض وكتب العقد المحامى الأستاذ مصطفى مرعى.. وألغيت هذه الميزة عند صدور تنظيم الحد الأعلى للأجور.. المهم أننا استطعنا بعد عام ونصف العام فقط إنهاء الخسائر وتحقيق أرباح لا بأس بها.. وأصبحت الجريدة بشكل أو بآخر ملكا للعاملين بها.. خاصة بعد أن نجحنا فى إصدار قانون تنظيم الصحافة وليس «تأميم الصحافة» الذى يمنح العمال بشكل مباشر نصف أرباح المؤسسة.. أما النصف الآخر فيتم تخصيصه لعملية الإحلال والتجديد فى المطابع وغيرها من مستلزمات الإنتاج.. وقد استطاع هذا القانون أن يحدد علاقة المؤسسات الصحفية بمؤسسات الدولة المختلفة والتى يفصل بيننا وبينهم «الدستور».. وكانت مؤسسة الأخبار معنا فى هذا الإطار، وقد خرج هذا القانون بالأساس من جريدة الأهرام. * أعتقد أننا اليوم فى أشد الاحتياج إلى تلك الأفكار خاصة ونحن فى سبيلنا إلى دستور جديد وقانون جديد للصحافة أيضا ؟ - الأستاذ : نحن فى الحقيقة بحاجة إلى أشياء كثيرة وخاصة فى المرحلة الحالية.. ولذلك نقدم ملامح التجربة القديمة لتكون نبراسا لمن يصفون ملامح التجربة الجديدة.. وأعود إلى الأهرام بعد أن توليت مسئولية رئاسة التحرير بها.. حيث استقامت ظروفها المالية.. وأصبحت حريصة على أداء دور فاعل فى المنظومة المصرية كلها.. وقد حرصنا طوال الوقت أنا ومن معى أن نكون جريدة من طراز مختلف.. وقد حرصت فى اجتماعى الأول مع أسرة الأهرام على التأكيد بأننا جريدة مهمتنا الأساسية هى نشر الأخبار وتحليلها والتعليق عليها.. والغريب أن غالبية من يكتبون الآن يعلقون على الأخبار من دون أن يعرفوا فحوى هذه الأخبار. * وهذا يعود بنا إلى القاعدة المهنية المهمة والتى ذكرتها فيما سبق عن أنه لا رأى إلا على قاعدة خبرية ؟ - الأستاذ: هذه القاعدة مهمة جدا.. وأعتقد أن المهنية هى سر النجاح.. وقد استطعنا تحقيق سمعة إخبارية جيدة للأهرام.. مما أدى إلى وجود استقلالية مالية وربحية قابلة للاتساع.. وطوال الوقت لم يغفل الأهرام البعد الثقافى.. فالثقافة كما ذكرت هى الظهير الحقيقى للسياسة.. والثقافة ليست محلية ولكنها عالمية والأدق أنها إنسانية بالدرجة الأولى.. وتستطيع بتضافرها مع السياسة أن تحقق لك الانتشار المطلوب كجريدة.. ولذلك كنت حريصا على انضمام توفيق الحكيم إلى أسرة الأهرام.. على أن يتقاضى راتبا مثل راتبى تماما مقابل الجلوس مع الشباب كل يوم.. وكل ما يكتبه بعد ذلك يتقاضى عنه أجرا جديدا.. ولذلك فقد كان «الحكيم» يحصل على ضعف أو ضعفين قيمة راتبى كل سنة.. وقد كنت رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة الأهرام و«ستار ريبوتر» - كبير المراسلين - وكاتب مقال أسبوعى وكل هذا مقابل 250 جنيها شهريا فقط.. وكانت مقالتى تباع بالخارج مقابل 1000 جنيه استرلينى نصفها للأهرام ونصفها الآخر لى.. ولولا هذا ما استطعت أن أعيش.. لقد كنت أعطى للأهرام أكثر كثيرا مما آخذ منه. * تحول الأهرام تحت رئاستك إلى جسر حقيقى للتواصل مع الثقافات الأخرى من خلال دعوتك للعديد من القامات الكبيرة فى مختلف المجالات ؟ - الأستاذ: لقد دعونا بالفعل العديد من أصحاب العطاءات الكبيرة، ومنهم المناضل الرمز تشى جيفارا.. والذى دعوناه لزيارة مصر لمدة أسبوع.. ورتبنا له ندوة حاشدة فى الأهرام حضرها العديد من رموز تيار اليسار إسماعيل صبرى عبدالله - فؤاد مرسى - محمد سيد أحمد - إلخ... وسجلنا مع جيفارا 17 ساعة.. انطلاقا من ضرورة تكامل الثقافة والسياسة.. فالحاكم أو السياسى صاحب الخلفية الثقافية يخلد فى ضمير أمته... ومثال على ذلك تشرشل رئيس وزراء إنجلترا الأسبق.. فقيمة تشرشل الكبرى فى امتلاكه لخلفية ثقافية كبيرة.. ومثله ديجول الذى امتلك الخلفية الثقافية وارتبط بمفكر كبير هو اندريه مالرو.. فالحاكم المثقف عندما يتولى السلطة يضيف إلى وطنه وإلى الإنسانية كلها.. وللأسف الشديد ضاعت - ولا أدرى كيف - تسجيلاتنا مع تشى جيفارا.. تلك الثروة الهائلة 17 ساعة حوار مع كبار مثقفى مصر - وقد سألت الدكتور عبدالملك عودة.. وكان مدير مكتبى بالأهرام وكان مشرفا على هذه الندوة.. وخرج هو الآخر من الأهرام دون أن يعرف أين هذه التسجيلات النادرة - وقد سألت على حمدى الجمال رئيس تحرير الأهرام عن هذه التسجيلات فلم يعرف مصيرها ومازالت هذه التسجيلات النادرة والمهمة مفقودة حتى الآن. كما نجحنا فى الأهرام فى دعوة اثنين من كبار القادة العسكريين فى العالم القائد الإنجليزى مونتجمرى وجنرال بوف.. وقد استثمرت وجود مونتجمرى لحضور احتفاليات مرور 25 سنة على أحداث العلمين ودعوته إلى الأهرام وكنت أسعى لأن نسمع منه.. وأن يذهب إلى كلية أركان حرب ليجيب عن أسئلة الضباط والقادة ولقد كان مونتجمرى قائدا بارزا فى استراتيجية الحرب وإدارة ميدان القتال، بينما كان جنرال يوف قائدا بارزا فى فلسفة الحرب وفكر القتال. * هل دعوت هؤلاء القادة الكبار فقط للاستماع إلى تجاربهم الكبيرة ، رغم أن هذه التجارب كانت منشورة فى الغرب ؟ - الأستاذ: الحقيقة أن هناك أهدافا أخرى لا تقل أهمية عن الاستماع ومحاورة هؤلاء القادة الكبار.. ومن أهم هذه الأهداف أن عبدالناصر لم يسافر إلى الغرب أبدا.. فعلاقته كانت بشرق أوروبا وأقواها كانت مع يوغسلافيا، وأردت بدعوة هؤلاء القادة والمفكرين أن يأتى الغرب إلى عبدالناصر.. وكم كان ممتعا أن تحضر تلك المناقشة التى دارت ما بين عبدالناصر وسارتر والذى تحدث بصراحة مع عبدالناصر عن السلام مع إسرائيل. * هل تعتقد أن نموذج تعاون ديجول «اليمينى» مع مالرو «الاشتراكى» قابل للتكرار والتطبيق فى مصر خاصة فى ظل سيطرة تيار الإسلام السياسى على الساحة السياسية فى الوقت الراهن ؟ - الأستاذ : لقد التقى ديجول ومالرو فى ظرف وطنى شديد الخصوصية.. حيث كانت فرنسا محتلة من قوات هتلر.. وكانت تحارب للتخلص من هذا الاحتلال.. وكان ديجول قائد المقاومة.. ولولا الحرب ما ظهر ديجول ومواهبه الكبيرة فى القيادة والوطنية والمقاومة.. ولكن مالرو مفكر يؤكد تواصل العطاء الفرنسى فى عالم الثقافة والفكر فى تيار فكرى متصل بما قبله.. ومتحرك للمستقبل.. وأعتقد أن تيار الإسلام السياسى فى مصر لا يمكن أن يقبل بوجود وزير بثقل المفكر الفرنسى أندريه مالرو.. وذلك لأن هذا التيار لا يقبل مبدأ الاختلاف فكريا.. وهذا ليس الآن فقط.. حيث إننى اختلف مع المقولة الأساسية للأستاذ حسن البنا مؤسس «الإخوان المسلمين» بأن الإسلام دين ودولة.. وذلك لأن هذه المقولة تحمل الكثير من التناقض، فالدين ثابت والسياسة نسبية.. والدين يقين واعتقاد.. والسياسة حوار دائم ومستمر.. كما أن الدين له منطقه ومجاله وله فعله بمقدار ما هو ممكن ولكنه دوما فى القلب.. أما السياسة فقضية أخرى.. لأنها خيارات دنيوية.. وليست أخراوية.. وأزمة سيطرة تيار الإسلام السياسى تكمن فى غياب «مجال الحوار»، فالوعد والتبشير والجنة والنار كلها أشياء لا تمهد لاختيارات سياسية.. لأنها تعبر عن مقادير مكتوبة ومحسومة. * ترى هل مثل هذه الأفكار هى التى جعلت «الإخوان المسلمين» على مدى أكثر من 80 عاما لا يقدمون للساحة الثقافية مبدعا كبيرا؟ - الأستاذ : من المؤكد أن الإخوان لا يستطيعون تقديم مبدع كبير.. وذلك لأن أى أدب أو فكر أو فن يعنى انطلاقة إلى شىء مختلف.. ويدعو إلى التجديد وإلى مخالفة الواقع.. فعندما تقول لى إن ما صلح به أول الأمة هو الذى سيصلح الأمة الآن.. فهذا يعنى أنك تدعو إلى التقليد والقولبة مما يعمل بالضرورة على تقييد الفكر والإبداع فهل يستطيع الإخوان إخراج شاعر يقول ما قاله أبوالعلاء المعرى فى قصيدته الشهيرة : فى اللاذقية فتنة ما بين أحمد والمسيح هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح كل يعزز دينه ياليت شعرى ما الصحيح ؟ * استطعت من خلال وجودك فى الأهرام أن تطل وبقوة على المشهد الثقافى المصرى، خاصة فى ظل وجود الدور الساحر «السادس».. والآن وبعدما يقرب من الأربعين عاما لمغادرتك للأهرام هل تطل على المشهد الثقافى المصرى بنفس القوة؟ - الأستاذ: كما ذكرت فوجودى فى الأهرام جعلنى على اتصال بكل التيارات والمدارس الأدبية فى مصر.. ولكن الوضع الآن مختلف، حيث إن عدد من أراهم فى مكتبى قليل جدا.. كما أن التقلبات والتغييرات السياسية سريعة جدا, مما أثر على الأدب والإبداع وعلى متابعة الأدب والإبداع أيضا.. فلم تعد هناك مدارس أو تيارات.. ولكن هناك أفراد لديهم التميز فى الإبداع.. فوسط الزحام تستطيع أن ترى بهاء طاهر.. وشاعر العامية الأبنودى.. وجمال الغيطانى ويوسف القعيد.. ورغم ذلك فأنت لا تشعر بوجود مدرسة أو تيار فكرى جامع يعمل على إفراز النجوم.. ولكنك تلمح كل فترة نجمة منفردة تلمع بذاتها. * وربما أن المناخ العام الذى كان سائدا فى الخمسينيات والستينيات والذى لم يعد موجودا هو الذى أثر على الإبداع. - الأستاذ: من المؤكد أن المناخ العام له تأثير كبير على حركة الأدب والإبداع.. ولكن هذا المناخ العام لا ينشأ إلا بحركة مجتمعية تعبر عنها سياسة معينة.. فتوفيق الحكيم وطه حسين ظهرا فى مناخ اجتماعى معين.. وأيضا يوسف إدريس ولويس عوض ظهرا فى مناخ اجتماعى معين وغيرهم من المبدعين نشأوا بهذه الطريقة، حيث هذا المناخ متواصل مع ما قبله -ويعيش اللحظة الراهنة- ولذلك وجدنا فى الخمسينيات والستينيات كل المدارس السياسية والأدبية، فاليسار مع عبدالرحمن الشرقاوى والاعتدال مع نجيب محفوظ.. والمحافظ مع باكثير وهكذا. وقد تغير هذا المناخ العام تماما بعد حرب أكتوبر وواصل تغيراته وتقلباته حتى الآن.. وذلك لا يسمح أبدا بوجود تيار ثقافى متواصل ومتدفق.. ولكنه يسمح فقط بوجود بعض النقاط المضيئة هنا وهناك مثل الأسماء التى ذكرتها لك وغيرها من الأسماء اللامعة فى عالم الأدب والإبداع. * هذا المناخ العام المتقلب هل يدفعك إلى الخوف على الثقافة والفكر؟ - الأستاذ: الخوف على الثقافة موجود بشكل دائم، ولكن الخوف يصبح أكبر عندما نتواجد فى وضع لا يسمح بحرية التفكير.. ومثل هذا الوضع مهما كان مصدره سلطة أو عقيدة أو أى شىء آخر يعمل على وأد الأفكار.. تلك الأفكار التى يجب إلا ترهب من السلطة.. ولكن السلطة هى التى يجب أن تخشى الفكر.. وبشكل عام فإذا لم نستطع أن نتجاسر ونفكر ونبدع، فلن يكون أمامنا إلا التراجع يعد أن تحاصرنا القوى التى تمنع حرية التفكير.