بقدر مايثير مشروع الدستور الجديد من جدل على مستوى النخب والشارع المصرى تتجلى حقيقة ان الدستور قضية ثقافية فى أحد أبعاده المتعددة بينما تطرح مسألة الانفتاح على تجارب الشعوب الآخرى والخبرات الثقافية الدستورية تساؤلا حول امكانية النص الصريح على "حق المواطن المصرى فى السعادة" على غرار مافعله الأمريكيون فى دستورهم. وواقع الحال ان العديد من المفكرين و"الآباء الثقافيين المصريين" ركزوا على اهمية التفاؤل والأمل وحق المصرى فى السعادة فيما يتجلى الحب فى نظرتهم لمصر واعتزاهم بالانتماء لهذا الوطن مع فهم اصيل للشخصية المصرية. وفى كتاب :"مصر فى مرآتى" الذى اعده الكاتب ابراهيم عبد العزيز ليعرض رؤى الدكتور طه حسين وغيره من كبار المفكرين والمثقفين-يقول عميد الأدب العربى الراحل :"احب مصر لأنها مصر" مضيفا :"أنا المصرى واذا ذهبت مذهب المحدثين فى السياسة فأنا مصرى قبل كل شىء وبعد كل شىء". ورأى طه حسين ان المصريين لايفكرون فى هويتهم لأنها مسألة محسومة "الا حين يريدون ان يتحدثوا فى العلم اما مصر التى تملأ قلوب المصريين وتدفعهم الى الأمل والعمل دفعا فهى فوق علم العلماء وبحث الباحثين وفلسفة الفلاسفة". ويصف الكاتب الرحل توفيق الحكيم شخصية مصر بأنها "ليست كتابا مفتوحا وانما هى هيكل قديم مغلق يحوى كنوزا قد ضاع مفتاحه وعلينا قبل كل شىء ان نفتح باباه ونستخرج مافيه..ليس من الخير ان نظل طوال الزمن نتغنى بمفاخر هذا الهيكل ونحن نائمون على اعتابه لكن المصلحة كلها فى ان نذكر انفسنا دائما بما فينا من كسل ونقص وخمول وان نهب على اقدامنا للعمل". واعتبر الدكتور محمد حسين هيكل ان "ابناء مصر لايعرفون مصر" فيما القى باللائمة فى هذا السياق على القائمين على التعليم بينما قال الدكتور زكى نجيب محمود :"اننى ازهو بمصريتى" معيدا للأذهان ان مصر كانت دائما محور التاريخ خلال الحضارات الأربع فيما اكد على دورها الكبير فى ابداعات التراث الاسلامى وحفظ هذا التراث. وجرت العادة فى دول كثيرة ان يقوم خبراء لغويون من أصحاب الثقافة الرفيعة بمراجعة صياغة مشروع الدستور لضمان اتساقه وسلاسة ايقاعه تمهيدا لطرحه على الشعب فى استفتاء عام. وفى دولة مثل الولاياتالمتحدة- ينظر الأمريكيون للوثيقة الأصلية لدستورهم باعتبارها الأهم فى تراثهم المكتوب كما يحلو لهم التفاخر بأن هذا الدستور الذى صيغ فى اربعة شهر هواقدم الدساتير الديمقراطية المكتوبة فى العالم الحديث واول دستور فى العالم على الاطلاق يعرض على الشعب لاقراره. وحتى الآن يشكل الدستور الأمريكى بملابساته التاريخية وعملية صياغته واجراءات اعلانه مادة ثرية للمعنيين بالدراسات الدستورية وهو دستور كتب اصلا على اربع لفائف من جلد الرق حجم كل منها لايزيد كثيرا عن قدمين عرضا و قدمين طولا غير ان بعض الأفكار التى تضمنتها هذه الوثيقة حظت بالخلود وانتقلت عبر المحيطات. والوثيقة الأصلية للدستور الأمريكى التى استهلت ب: "نحن الشعب" كتبت بلغة بالغة الاناقة والرشاقة غير ان من كتب الديباجة بخط اليد مال بالمقدمة قليلا نحو اليسار فيما مالت كلمات بقية الوثيقة قليلا نحو اليمين ومن هنا بدت الوثيقة الخطية متعرجة لحد ما او "زجزاجية قليلا". واذا كانت عملية صياغة مسودة الدستور الأمريكى استغرقت اربعة اشهر فقد تضمنت هذه المدة اسبوعين للتنقيح وتهذيب النص من جانب لجنة تضم فقهاء فى اللغة وخبراء فى الصياغة والأساليب غير انه بحلول يوم الاثنين الموافق السابع عشر من سبتمبر عام 1787 كانت الوثيقة جاهزة لتلاوتها امام اعضاء الجمعية الفيدرالية لتصبح بعد مناقشات مستفيضة دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية . وضمت الجمعية التى ناقشت مشروع الدستور الأمريكى قبل اقراره من الشعب 55 عضوا يمثلون الولاياتالأمريكية المختلفة ومن اصحاب الخلفيات الفكرية والسياسية والاقتصادية المتعددة بينما بلغ عدد اعضاء الجمعية التأسيسية للدستور فى فرنسا بعد ثورتها 500 عضو. واذا كانت هناك تأكيدات متعددة على اهمية الاستفادة من التراث الدستورى الثرى لمصر فضلا عن التراث الدستورى العالمى ودساتير الديمقراطيات العريقة فمن المثير للتأمل ان الوثيقة الخطية الأصلية للدستور الأمريكى ظلت تنتقل من مكان لأخر حفاظا عليها باعتبارها اغلى تراث مكتوب للشعب الأمريكى. وانتقلت هذه الوثيقة حسب الدواعى الأمنية من مقر الكونجرس الى مقر وزارة الخارجية فوزارة الخزانة ثم وزارة الدفاع بل انها اخفيت لفترة فى احد المطاحن بفيرجينيا حتى قدر لها ان تعرض لأول مرة امام المواطنين عام 1924 بمكتبة الكونجرس. وفى عام 1952 نقلت الوثيقة الأصلية للدستور الأمريكى داخل عربة مصفحة وفى ظل حراسة مشددة الى مقر الارشيف القومى لتستقر هذه الوثيقة جنبا الى جنب مع وثيقة اعلان الاستقلال وميثاق الحقوق ويتحول المبنى الدائرى الذى تعلوه قبة بمقر الارشيف القومى الى مزار للمواطنين الأمريكيين. ومن الطريف ان الرئيس الراحل بنجامين فرانكلين والذى يوصف بأنه من اهم وابرز مؤسسى الولاياتالمتحدةالأمريكية كان على ثقة بأن وثيقة الدستور تنطوى على عيوب ومطاعن كثيرة كما ان هؤلاء الذين سهروا على صياغتها ليسوا بمعصومين من الخطأ والزلل. ومع ذلك فان الرأى استقر على هذه الوثيقة التى تؤكد على الحق فى السعادة "ليس باعتبارها الأمثل على الاطلاق وانما لأنه لايوجد ماهو افضل منها حينئذ" فيماخضع الدستور الأمريكى بعد ذلك لتعديلات عديدة رغم انه فى الأصل احد "اقصر واوجز الدساتير فى العالم" حيث لم يزد مجموع كلماته عن 4400 كلمة. واذا كان الآباء الثقافيين للمجتمع الأمريكى قد انجزوا مشروع هذا الدستور الذى يؤكد على حق المواطن الأمريكى فى السعادة فان للمصريين ايضا آبائهم الثقافيين وتراثهم الدستورى الثرى فضلا عن اشارات واضحة حول الحق فى السعادة.فمنذ عشرينيات القرن التاسع عشر تحدث احد اباء الثقافة المصرية الحديثة وهو رفاعة الطهطاوى عن مصر التى يتمناها "كبيت لسعادة كل المصريين نبنيها بالحرية والعلم والمصنع". بل ان تحدثت صحيفة غربية فى حجم"نيويورك تايمز" تحدثت بصورة مستفيضة عن العلاقة بين السلطة والمثقفين وتوقفت مليا امام فترة حكم محمد على وظهور طلائع جيل من المثقفين المصريين الذين تواصلوا مع اوروبا والغرب فى عهده ومن بينهم رفاعة الطهطاوى ذاته. انها الطلائع المثقفة التى نقلت الى مصر مستحدثات العلوم والتقنية الأوروبية كما تولت فى اغلبها مهمة ادارة دولاب العمل الحكومى والتعليم والصحافة وهى الطلائع التى تتوالى جيلا بعد جيل وعليها اليوم ان تنجز مشروع دستور يليق بمصر.. انها مصر التى قال عنها الشاعر الراحل امل دنقل:"مصر لاتبدأ من مصر القريبة..انها تبدأ من احجار طيبة..انها تبدأ منذ انطبعت قدم الماء على الأرض الجديبة..ثوبها الأخضر لايبلى اذا خلعته رفت الشمس ثقوبه".