أعرف أنك تفهم دائما معنى كلماتى.. وربما أنفاسى الواهنة ونظراتى الشاردة.. أحيانا أشعر أنك تسمع صوت عقلى وأنا أفكر. اعذرنى يا صديقى العزيز، فالحياة تغيرت بعض الشىء، أو قل شيئا كثيرا . فى ما مضى كان مبلغ المعاش يكفينى مع بعض المال الذى كان يعطيه لى أشرف، اهدأ.. أقسم لك أنه أطيب أبنائى، إنه من تحملنى- بعد أن ضاق بى إخوته الميسورون- فى بيته المتواضع، كنت لا أزال عفيا ويقظا.. أمتع أوقاتى أقضيها وأنا أشرب الشاى الأخضر مع الكثير من السكر فى شرفته الصغيرة التى تطل على الشارع المزدحم، أراقب أحوال الناس كرجل يعتقد أنه حكيم مر عليه الكثير وآن له أن يستريح.. ولكن كيف أستريح وتلك المرأة المفترض أنها زوجة ابنى قد نزعت الوجه الذى ربما كان لها ووضعت مكانه وجها خشبيا كئيبا يزداد قبحا كلما طلبت منها شيئا أو حتى لم أطلب! أسمعها وهى تتجادل معه وتتعمد أن ترفع صوتها كى تُسمعنى.. حاولت أن أتحملها وهى تضع أشياءها فى الشرفة فتضيق زاوية الرؤية شيئا فشيئا، ثم قلت حبات السكر شيئا فشيئا ثم الشاى الأخضر..! ثم تحول المشروب إلى كوب من الماء نصف المغلى، طلبت منه أن يستأجر لى شقة صغيرة أعيش فيها ما تبقى من عمرى.. شعرت أنه سعيد رغم تحفظه وهو يقسم لى أنه لن يدعنى أحتاج إلى شىء. نعم.. تلك الشقة التى تعرف أنت كل ركن فيها، حين شعرت بالوحدة دخلت أنت حياتى.. كنت لا تزال تحتفظ ببعض هيبتك ككلب مدرب خدم فى الشرطة زمنا طويلا.. قال لى البائع «هذا الكلب (جيرمن شيبر.. بلاك جاك) من أفضل كلاب الحراسة».. أنا لا أفهم كثيرا فى الكلاب..!، ولكنى أحسست أن هناك شيئا يجمعنا. جاء أشرف ووجدك فبدت عليه علامات الضيق وكأنه يحدث نفسه: كنت أعول عجوزا واحدا أصبحت أعول عجوزين. حاولت أن أطمئنه، أكدت له أن أكلتك ضئيلة وأنك غير مكلف رغم زيف ذلك، ولكن يبدو أنه لم يقتنع ..لم أعرف إن كان لا يحب الكلاب أم أنه لم يحبك أنت، اهدأ.. اهدأ.. أعرف أن هذا ليس سبب انقطاعه عنى من حين لآخر ولكنى تعودت أنا وأنت على ذلك وأقلمنا حياتنا على ما معنا، ولكن اعذرنى يا صديقى فالمعايش تغيرت كثيرا والأسعار ارتفعت بجنون والغلاء اجتاح العالم كالوباء.. وبات مبلغ المعاش لا يكفينا، نعم.. أعرف أنك أصبحت ترضى بأى طعام وأنك حتى صرت نباتيا ولكن ما الذى يجبرك على ذلك ؟!.. إن جسمك صار ضعيفا وصحتك لم تعد على ما يرام، نعم.. أعرف أنه حكم السن، ولكن لو كان طعامك أفضل لكان الحال غير ذلك . أريد أن أخبرك بسر.. لقد حاولت أن أبيعك..! اهدأ يا صديقى.. أقسم لك أنه ليس طمعا فى المال ولكن لأن من سيدفع فيك المال سيكون أحرص عليك.. أتذكر ذلك الرجل البدين الذى جاءنا وأنت نصف نائم ممدد الأطراف.. ابتسم وقال «من يأبه بكلب عجوز كهذا ؟!» ثم تركنى وولى. سامحنى يا صديقى.. أعرف أن الرحلة إلى هذه الحديقة البعيدة كانت مرهقة.. ولكنى فى الحقيقة حاولت تضليلك فأنا أعرف أن الكلاب تحفظ دائما طريق الرجوع . الآن سأربطك فى هذا المقعد وأمضى.. لا تحزن يا عزيزى، سيرق لك قلب شخص ميسور فيؤويك ويطعمك بأفضل من طعامى، أو صبى غض يُدللك ويُلبسك طوقا جميلا ويتباهى بك وسط أقرانه.. أما أنا فلا أعرف ماذا سأفعل.. أتمنى أن يعود أشرف، ربما حين لا يجدك يتذكر أن له أبا يعيش وحيدا يحتاج لمن يسأل عنه.. والآن وداعا يا كلبى العجوز .