لا يزال الصعيد يحوي الكثير بداخله حتى يومنا هذا، فهو العالم الثري بالموروثات والأساطير والثقافة الشعبية التي لا تزال أهم معالم ذلك المجتمع الثري بكل موروثاته، وعلى الرغم من كل الكتابات التي تناولت الصعيد إلا أنه ما زال يحوي المزيد من المعالم التي يمكن للكتاب أن يسطروا منها آلاف الروايات والحكايات. في هذا الكتاب الجديد "الصعيد في بوح نسائه" تقدم الكاتبة سلمى أنور قراءة جديدة ومهمة لعالم قرأ كثيرا من قبل إلا أنها تلتقط خيط كتابها برؤية جديدة وهامة تستحق الدراسة. تعرج الكاتبة في مقدمتها على ذات النقطة خاصة أنها تبحر في عالم سبقها الكثير في الابحار مراهنة بذلك على أنها ستقدم للقارئ ما يستحق القراءة من جديد، فتقول في المقدمة" كثيرٌ هو ما كتب عن الصعيد، ما بين توثيق وتأريخ وتجميع للموروث و الأهازيج والأمثال والحكايات. لذا فلست أظن ما في هذا الكتاب من محتوى يزيد على كونه مربعا صغيرا يتم تظليله في محاولة لتوضيح صورة كبيرة، وإن كانت تظل منقوصة، لواحد من أقدم أقاليم الأرض وأول ما شهد منها على الحضارة الإنسانية" . وتتابع في مقدمتها في صورة معبرة عن هذا العالم قائلة " العملاق المغري بالمشاكسة علّه يسمح بشيء من فك طلاسمه والإفصاح عن مخزونه من أساطير وخرافات ونذور منذورة وأولياء وصالحين ومخبولين وطامعين ومشعوذين" ! تشير الكاتبة أيضا إلى حفاظ الصعيد على ثقافته برغم كل التغيرات التي طرأت على المجتمعات كافة في قولها" ولعل إحدى علامات الممانعة الثقافية تلك هي الاحتفاظ باللهجة الجنوبية التي لم ينجح التلفزيون قاهري الهوى أن يعيد نحتها أو تشكيلها إلا بالقدر الذي سمح به الجنوبيون أنفسهم. الجلابية الصعيدي، العيش الشمسي، الويكا، الزنادة (أداة خشبية تستخدمها المرأة في المطبخ الصعيدي لتنعيم ثمار البامية، ويُقال إنها موروث فرعوني) بعض الطقوس المتعلقة بالميلاد والزواج والموت، هذه كلّها مفردات جنوبيةأصيلة تضاف إلى اللهجة الصعيدية لتشكل مكونات الحياة في الصعيد. وكل تلك المكونات في حقيقة الأمر من الطراز المملوء بالروح والحياة وإلا لما كانت فرضت حضورها عبر القرون بكل هذا الطغيان وكأنما ترفض هذه المكونات أن تنطمس أو تموت بتقادم الزمن" تبحر الكاتبه في عالم النساء الذي لم يحظى بالتناول الخاص به خاصة وأنهن الأكثر تحفظا حتى الآن ، وتكاد أن تكون إشارتها جديرة بالتدليل على ذلك في قولها " البعض الآخر من النساء كنّ أكثر تحفظا، فاعتبرنني أقتحم مساحات إما خاصة ومحُرّمة، أو أكثر إيلاما من أن أعيد خمش جراحها بأسئلتي، وهنا كان المحكيُّ محكيا "بالقطارة" وبلهجة مقتضبة ووجه غير مُرحب..بعده كان الصمت والمغادرة!" متابعة "أُخريات كُنّ مستعدات جدا للبوح، شريطة ألا أوثّق حكاياتهن أبدا ولا أنقلها أبدا! فقد كُنّ يحتجن فقط إلى مشاركة عابرة دون وثائق ولا مستندات! وهؤلاء، بالطبع، لن يجد القارئ حكاياتهن في هذا الكتاب ولا في سواه! هناك من حكتْ على الهاتف دون أن تمنح وجهها وهويتها لل "غريبة البحراوية"، وهناك من حكت عبر وسيط تثق به، كجارة أو قريبة، دون أن تحضر بنفسها إلى محكانا. وهناك من رفضت البوح نهائيا حتى قبل أن تجلس إليّ."
لم تنسى سلمى، إهداء كاتبها إلى احدى بطلات كتابها، فاختارت "نفيسة" وقالت لها إلى "نفيسة"... الصعيدية المُحبة الضاجّة بالحياة، التي آمنتْ بال "الصعيد في بوح نسائه" انطلاقا من إيمانها بسطوة الحكاية، والتي كانت على مدار شهور الحبلَ السُريّ بيني وبين الصعيد، وهمزة الوصل بيني وبين نسائه ومفرداته وحكاياته الواردة في هذا الكتاب. إلى "نفيسة" وكل نفيسة في جنوب بلادي... إلى كل نفيسة باحت أو تكتمت... إلى كل نفيسة صنعت الحياة صمتا أو صنعتها بصوت ملء الحياة ذاتها... إلى كل نفيسة صنعت حكايتها بنفسها، وكل نفيسة ورِثت حكايتة من أسلافها، أو ورّثت حكاياتها لنفيساتها الصغيرات من بعدها... إلى "نفيستي" وكل النفيسات الأخريات، أهدي كل هذا البوح.
وختمت الكاتبة، تجربتها الجديدة قائلة " كل هذه حكايات مُحتملة من الصعيد وعن الصعيد، والمسكوت عنه لا يزال أكثر مما رُوي...لذا فأنا أعتبر هذا الكتاب بمثابة دعوة (مطوّلة) لاستفزاز المزيد من حكايات الجنوب ومن بوح نسائه...فالحكاية مؤنثة والتفصيلات مؤنثة والموروثات مؤنثة والخرافات مؤنثة، ولا يملك مفاتيح بوابات الصعيد العملاقة إلا نساء الصعيد".
سلمى أنور - مؤلفة الكتاب - من مواليد القاهرة عام 1981وهي باحثة في العلوم الإنسانية، حصلت على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 2002 قبل أن تسافر إلى مالطة ومنها إلى أيرلندا للحصول على درجة الماجيستير في حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي، وكان موضوع رسالتها للحصول على الدرجة هو "مفهوم الجهاد في العلاقات الدولية الحديثة".
بعودتها إلى مصر، بدأت الكاتبة رحلة التدريس الجامعي في الوقت الذي استهوتها فيها دراسة الحوار الحضاري بين أوروبا ودول جنوب المتوسط فبدأت في إعداد رسالتها لنيل درجة الماجيستير الثانية ولكن هذه المرة من جامعة القاهرة وكان موضوعها "الأجيال الجديدة من المسلمين في أوروبا بين الاستيعاب والأسلمة".
وكان أن سافرت الكاتبة مرة أخرى إلى أوروبا تحديدا إلى الدنمارك لعدة أعوام ولكن هذه المرة لا بوصفها باحثة بقدر ما قدمت نفسها في دوائر العمل الاجتماعي والإنساني كناشطة.
من مؤلفات الكاتبة: كتاب "الله...الوطن...أما نشوف"، ورواية "نابروجادا"، وديوان "سوف أعيد طروادة إلى أهلها..ثم أحبك" بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات في صحف إلكترونية وورقية متنوعة.