بوتين الذى يلقب أحيانا ب«ستالين الصغير»، ويوصف بأنه وريث القيصر بطرس الأكبر، مؤسس روسيا الحديثة، شخصية تستحق قراءة متأنية. قائدٌ صامتٌ عادة، لكنه لا يخشى التعامل مع عدسات المصورين التى تلاحق الرجل الذى يهوى الصيد بالبندقية ويحلو له اقتناص فريسته وهى ما زالت تطير فى السماء، ويحب رفقة كلبه الأسود فى رحلات الصيد، ويعشق ركوب الخيل، ولا يخجل إذا ارتدى زى «راعى البقر» الأمريكى. يحب حفيد طباخ لينين وستالين الظهور بجسد قوى، وملامح صارمة، ولا يمانع فى إيجاد كل الأعذار للتبرك بقبعة الزعيم السوفيتى الأسبق جوزيف ستالين. طفولته فى أهم شوارع سانت بيتسبرج علمته مصارعة مصيره للخروج من أى مأزق، كما يقول ديميترى تارفين، مدير البحوث فى الجامعة الأوروبية سانت بيتسبرج بمركز دراسات الحداثة. ولد بوتين عام 1952 فى ميناء الاتحاد السوفيتى الشمالى وعاصمة الثورة البلشفية لينينجراد (سانت بيتسبرج حاليًا)، وكان بوتين، هو نفسه اعترف فى سيرته الشخصية الأولى أنه كان فى طفولته «همجيًا». تعلم فنون الدفاع عن النفس بينما كان فى المدرسة، وحرص على مزاولة هذه الرياضات القتالية بانتظام حتى الآن. غريزته للبقاء على قيد الحياة، من المرجح أنها الخاصية المميزة التى قد يكون ورثها من جده الأب، سبيريدون بوتين، الذى عمل طباخًا لدى كل من لينين، وبعد ذلك ستالين. «ليس الكثير من الناس الذين كانوا حول ستالين فى كل وقت تمكنوا من الفرار سالمين»، وفق ما قاله بوتين بعد وقت قصير من توليه الرئاسة، «لكن جدى فعل ذلك». على الرغم من أنه كان فى طفولته قصير القامة، وذا جسد هزيل، فإنه تعلم من حياة الشوارع الجرأة فى مواجهة أولاد أقوى وأثقل منه. وقد يغفل المؤرخون عن حقيقة أخرى مهمة، وهى أنه نظرًا لتصرفاته الخشنة لم يُسمح له للانضمام إلى صفوف «اللينينين الشباب» وهو فى سن الثانية عشرة. بعد الجامعة، انضم بوتين إلى وكالة الاستخبارات الروسية «كى جى بي»، وأوفى بذلك حلم الطفولة فى الحقبة السوفيتية كعميل سرى اشتراكى، خاصة أنه حاول التقدم للعمل فى الجهاز وهو فى سن الرابعة عشرة. لكنه لم يكن جيمس بوند السلافى، بل كان يؤدى مهمة استخبارات عادية فى درسدن ألمانياالشرقية وكانت مهمته السرية الخارجية الوحيدة. أثناء وجوده فى ألمانياالشرقية بدأ الاتحاد السوفيتى ينهار. نتائج إصلاحات زعيم الحزب الشيوعى ميخائيل غورباتشوف أدت حسب تعبير عاطفى لبوتين فى وقت لاحق إلى «أكبر كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين». لدى عودته إلى روسيا، وجد بوتين عملاً فى مكان سانت بيتسبرج مع أحد المحاضرين فى القانون، وهو رئيس بلدية المدينة أناتولى سوبتشاك. يعتمد الرئيس بوتين على الصداقات والمعارف التى كوَّنها فى مدينة طفولته، واتضح ذلك عند تعيين كبار المسئولين، فزميله أليكسى كودرين عينه لاحقًا وزير المالية، وصديقه الأشهر على الإطلاق ديمترى ميدفيدف اختاره خليفته فى الكرملين. فى عام 1996، عين بوتين فى الكرملين كنائب رئيس الشئون الإدارية، وارتفع بسرعة من خلال الرتب قبل أن يعين رئيس جهاز الأمن الفيدرالى فى يوليو 1998. وقاد المجلس الأعلى للأمن فى روسيا عام 1999. بدأ بوتين صعوده إلى قمة هرم السلطة فى روسيا فى أغسطس 1999، عندما اختاره، بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا الاتحادية، لتولى رئاسة الحكومة، ثم تولى منصب الرئيس بالوكالة، أواخر نفس العام، بعد استقالة يلتسين. بدا يلتسين ساعتها كأنه مقاول هدم، نفذ مهمته التى تعاقد عليها لهدم واقتلاع جذور الشيوعية من بلاده، قبل أن يأتى مقاول البناء الجديد بوتين ليعيد إحياء القوى الإمبراطورية لروسيا. فى مارس 2000، انتخب «المصارع» السابق رئيسًا لروسيا الاتحادية لأول مرة، لفترة مدتها أربع سنوات، ثم أعيد انتخابه لفترة ثانية فى عام 2004، حتى عام 2008. ونظراً لأن الدستور الروسى يحظر على الرئيس الترشح لأكثر من فترتين متتاليتين، فقد جرى توافق داخل حزب «روسياالمتحدة» الحاكم، على ترشيح رئيس الحكومة، ديمترى ميدفيديف، لرئاسة البلاد، بينما يتولى بوتين رئاسة الحكومة. وبعد أربع سنوات أمضاها ميدفيديف فى المنصب الرئاسى، جرى خلالها تعديل الدستور بزيادة الفترة الرئاسية، عاد بوتين إلى رأس هرم السلطة مرة أخرى فى مارس 2012، ولكن هذه المرة لمدة ست سنوات، حتى عام 2018. رغم أن فترته الرئاسية الثالثة لم يمر على بدايتها أقل من عامين، كشف بوتين، عن نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة بعد نهاية فترته الحالية فى عام 2018. وفى حالة فوزه بتلك الانتخابات، إذا ما أقدم على ترشيح نفسه بها فعليًا، فإن بوتين، الذى يقود روسيا منذ عام 2000، سواء فى المنصب الرئاسى أو برئاسة الحكومة، قد يظل رئيسًا لروسيا الاتحادية حتى عام 2024. وأعاد تأكيد بوتين أنه لا يستبعد الترشح للانتخابات الرئاسية فى 2018، إلى الأذهان، النصيحة التى كان الرئيس المصرى الأسبق، حسنى مبارك، أسداها له قبل نحو سبع سنوات، عندما دعاه إلى عدم التخلى عن السلطة. وكان مبارك قد ذكر فى حديث لإحدى الصحف الروسية، أثناء زيارته موسكو عام 2006، أنه ينصح بوتين بتعديل الدستور بما يتيح له البقاء فى السلطة لفترة جديدة، بعد نهاية فترته الرئاسية الثانية فى عام 2008. فى ظل العزلة المفاجئة التى اختارها مُنظر سياسات روسيا، اهتم بوتين فى العقد الماضى بتعزيز النمو الاقتصادى، وسعى إلى دعم إنتاج النفط والغاز. ويبدو أن بوتين كان يدرك أن عوامل القوة الاقتصادية هى التى تعطى الكرملين قدرة كبيرة للمناورة السياسية. إن اعتماد أوروبا على موارد الطاقة فى روسيا يخفف من عواقب أى سياسة خارجية ضد روسيا. المستهلكون لموارد الطاقة حذرون من مواجهة على الأرض ضد روسيا دون سبب وجيه. أخذ العديد من المواطنين الروس يشعرون بأن وضع بلادهم قد تحسن بالمقارنة مع السنوات الصعبة فى 1990، وباتوا يعتقدون أن مكانة البلاد تتعزز من خلال قدرة بوتين على الدفاع عن مصالحها الوطنية والهجوم على العدو بين الحين والآخر. ويبدو أن المؤشرات الإيجابية للاقتصاد الروسى خصوصا مع تزايد مستويات إنتاج النفط والغاز، كانت كافية لإخراج سر بوتين إلى العلن. بدا الرجل أكثر اقتناعًا بأن روسيا قوة يجب أن تهابها بقية الدول الكبرى. خرجت رغبة بوتين لوضع روسيا على الخارطة السياسية من جديد بعد أن دعم أسسها الاقتصادية. كما أن بوتين مهتم بتوسيع هيمنة روسيا على دول وأقاليم الاتحاد السوفيتى السابق، خصوصًا جورجيا وأوكرانيا والشيشان. فى موسكو يرى القوميون فى بوتين محييًا لأمجاد روسيا القديمة، ووريثًا لقياصرتها، فى حين يرى فيه الديمقراطيون واليسار شخصية ذات تطلعات مدمرة، وسدًا استخباريًا عنيدًا، وحجر عثرة فى وجه التحول الحتمى للمجتمع الديمقراطي. غير أن الرجل لا يبالى كثيرًا بمعارضيه، ويتعامل معهم بحسم وحزم، ويركز على تحسين أوضاع بلاده الاقتصادية، مع تمهيد الأرضية لدور روسى أكثر تأثيرًا على الساحة الدولية. يرى البعض أن أهم إنجاز حققه بوتين وصنع له زعامته هو نجاحه فى منع تفكك الاتحاد الروسي. ويلفتون إلى أن أكثر من 20 مليون مسلم يعيشون الآن داخل الاتحاد الروسى، هذا عدا الخاصرة الرخوة التى تشكلها طاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزيا. ويشير هؤلاء إلى أن خمس جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتى فى القوقاز، بينها الشيشان وداغستان، هى جمهوريات ذات أكثرية إسلامية ساحقة أو صريحة. هذا إضافة إلى جمهوريتى تتارستان وبشكيريا فى وسط روسيا. وإذا أخذنا فى الاعتبار أوضاع الشيشان والاضطرابات فى داغستان يمكننا التحدث عن البعد الإسلامى فى سياسة بوتين خصوصًا مع تصاعد المخاوف من عودة طالبان إلى الحكم فى كابول بعد الانسحاب الأمريكى منها. ربما لهذا السبب يتعامل الكرملين مع سوريا وكأنها «حديقة خلفية» ستقرر معاركها مستقبل موجة المقاتلين الجوالين. وفق حسابات بوتين، فإنه إذا سقطت سوريا فى أيدى الجهاديين فإن هذه الموجة ستنتقل إلى محطة أخرى، وستؤثر على مصالح روسيا فى الشرق الأوسط. باختصار، لا يريد الرئيس الروسى تكرار النموذج الليبى الحالى فى دمشق. تدير روسيا هذه السياسة محتفظة بعلاقة متوازنة مع إسرائيل وإيران على حد سواء، فى حين تعتبر تركيا فى الوقت نفسه حليفاً تجاريًا واقتصاديًا مهمًا. وفى ظل وجود إدارة أمريكية مرتبكة، يبدو بوتين فى صورة من يتقدم لخوض مواجهة واسعة مع تنظيم القاعدة وحلفائه، دفاعًا عن روسيا لا عن سوريا. اشتهر بوتين كثيرًا بحبه لرياضات فنون الحرب، إضافة إلى ألعاب أخرى مثل كرة المضرب، ويبدو أنه يستفيد من تكتيكات كل لعبة من هذه الألعاب فى قراراته السياسية، التى تنضج على مهل. وها هى موسكو فى عهده تواصل بهدوء بناء جسور تواصلها من القاهرة إلى بيروت، وبطبيعة الحال دمشق؛ لتكون مستعدة فى اللحظات المناسبة للتدخل، مستفيدة من ضعف السياسات الخارجية الأمريكية فى السنوات الأخيرة. فى الشهور القليلة الماضية، لم يكتفِ الرئيس الروسى بحصوله على مبتغاه بتعطيل التدخل العسكرى الأمريكى فى سوريا، إنما أراد إحراج الرئيس الأمريكى باراك أوباما بأكبر شكل ممكن؛ إذ توجه إلى الأمريكيين بخطاب فى مقال بصحيفة «نيويورك تايمز»، هاجم فيه الولاياتالمتحدة فى عقر دارها واتهمها باتباع سياسات «إما معنا وإما ضدنا». بدا المقال خطابًا عقلانيًا مكتوبًا بطريقة يفهمها الأمريكيون وغيرهم بوضوح: الروس قادمون! وفى الطريق إلى ثورة 30 يونيو، حمل البعض فى مصر صورًا لبوتين مجاورة للفريق أول عبدالفتاح السيسى والزعيم جمال عبد الناصر، كتب عليها وداعًا أمريكا. كان هذا بحق تعبيرًا شعبيًا من أكبر دول المنطقة على قبول روسيا من جديد لتكون الحليف المنتظر، حيث لم يقف بوتين متفرجًا على الحياد، وأعلن تضامنه مع السلطة الجديدة فى مصر، وراح كلما صدر بيان عن إدارة الرئيس أوباما ينتقد الأداء المصرى والوضع الداخلى المحتقن، يطلق تصريحات يعلن فيها إيمانه بإجراءات الإدارة المصرية الجديدة، خاصة فى حربها على الإرهاب. كانت التصريحات الروسية عقب المواقف المتخبطة من واشنطن دليلاً على أن هناك قوة كبرى تستطيع أن تتحرك وتبادر وتقدم عروضًا لبناء جسور التعاون، ليس فقط العسكرى ولكن أيضًا الاقتصادى مع القاهرة الخارجة للتو من عباءة حُكم الإخوان المسلمين. سعى بوتين بذكاء إلى خلق مساحات جديدة للتعاون بين البلدين فى الشأن العسكرى سواء فيما يتعلق بالأسلحة والمشتريات العسكرية، أو بالدعوة إلى إقامة مناورات مشتركة، عقب إلغاء القيادة الأمريكية مناورات «النجم الساطع» مع مصر. وعلى رغم دعوة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى وقف سباق التسلح فى العالم، فإنه أعلن فى مقالة مكرسة للأمن القومى الروسى نشرتها صحيفة «روسيسكايا غازيتا» بتاريخ 20 فبراير 2012، أن القوات المسلحة الروسية ستحصل خلال العقد المقبل على نماذج حديثة للأسلحة. فى مقالته هذه، قال بوتن ما نصه إن «القوات المسلحة ستجهز خلال العقد المقبل بأكثر من 400 صاروخ باليستى حديث تطلق من الأرض والغواصات، وب8 غواصات صاروخية استراتيجية وحوالى 20 غواصة متعددة الأغراض، وأكثر من 50 سفينة حربية، ونحو 100 جهاز فضائى للأغراض العسكرية، وأكثر من 600 طائرة قتالية، بما فى ذلك المقاتلات من الجيل الخامس، وما يزيد على ألف من المروحيات، و28 منظومة صاروخية مضادة للجو من طراز «اس - 400»، و38 منظومة صاروخية مضادة للجو من طراز «فيتياز»، و10 مجمعات صاروخية من طراز «إسكندر - إم»، وأكثر من 2300 دبابة حديثة، وحوالى 2000 من المدافع الآلية، بالإضافة إلى ما يربو على 17 ألف قطعة من الآليات العسكرية». أرقام مخيفة، خصوصًا من سيد الكرملين، الذى ينافس واشنطن على كعكة توريد أسلحة للعالم، ويعمل بصبر وأناة كى يكون صوت موسكو مسموعًا أكثر من أى وقتٍ مضى.