وكأنه كتب علينا كل أسبوع أن تتجه أنظارنا صوب إحدى قرى الصعيد التى تعانى من المشاكل الطائفية، التى يتلذذ الإخوان بالنفخ فى جمرها حتى تشتعل. آخر بؤر الفتن الطائفية فى مصر، والتى رصدتها أعين «الصباح» أولا قبل أى وسيلة إعلامية مصرية كانت قرية «كفر حكيم»، أحد حصون التيار الإسلامى المتشدد الذى فرض على القرية شروطه بقوة السلاح، إما أن تؤمنوا بأحقية مرسى وجماعته فى الحكم وإما أن تقتلوا وتصلبوا وتحرق بيوتكم.. هذه هى الكلمات التى استقبلتها «الصباح» أثناء محاولتنا اختراق حصار القرية ومعرفة ما يدور داخلها لرصد معاناة سكانها المسيحيين. كفر حكيم إحدى القرى التابعة لمركز كرداسة فى محافظة الجيزة.. عدد سكانها يقترب من 30 ألف نسمة، منهم 80 أسرة من الأقباط. تعتبر معقلا للإخوان المسلمين واختبى بها المتهمون بأحداث كرداسة والتعدى على أقسام الشرطة. فى ظل غياب تام لقوات الأمن التى عجزت عن دخول القرية وحماية أهلها من بطش الجماعة الإسلامية وتنظيم الإخوان، كادت مغامرتنا الصحفية لا تبدأ، فالسائق الذى نقلنا إلى قرية «كفر حكيم» نصحنا بعدم دخول القرية، لأن السلاح فقط هو من يرد على الصحفيين هناك.. والمسيحيون لا يتكلمون خوفا على حياتهم، بعد أن أخذ عليهم العهد بالقوة بمنحهم الأمان مقابل الصمت على حرق الكنائس وسلب البيوت والأراضى وتهجير المعترضين. «الصباح» لم تهتم بهذه التحذيرات، فالصحافة أساسا مهنة البحث عن المتاعب، لكننا لم ننس وضع الحجاب على رءوسنا خوفاً من الإسلاميين، حيث يتم استهداف المرأة غير المحجبة بسهولة فى مجتمع منقسم مثل هذا. مسيحية بالحجاب الحجاب منحنا بعض الأمان النسبى فى شوارع القرية الساكنة، لهذا بدأنا من شارع كنيسة السيدة العذراء مريم وهناك وصلنا بيت كاهن الكنيسة، وتحدثنا مع شقيقه «موريس. س» .. فى البداية رفض الحديث لكن بعد محاولات عديدة أخبرنا موريس أنه منذ عزل الرئيس على خلفية ثورة 30 يونيه.. بدأ عداء حاد بين أنصار الرئيس مرسى ومؤيدى الفريق عبد الفتاح السيسى.. تجسد هذا العداء عندما قام أحد مسلمى القرية ويدعى «جمعة غالى» بعمل احتفال كبير بالقرية عند عزل الرئيس مرسى، وظل يكرر الاحتفال كل أسبوع عقب صلاة الجمعة وعمل مسيرات معادية لأنصار الرئيس المعزول ويرفع صور الفريق السيسى ويطوف بها القرية. ويستكمل موريس سرد بدايات الطائفية فى قريته بقوله: «لم نكن نعتقد أن رد الفعل سيكون ضدنا نحن، فلم يخرج مسيحى واحد إلى الشوارع ليعلن تأييده للفريق السيسى خوفاً من بطش الإسلاميين، لكن فجأة حدثت 3 هجمات على الكنيسة مباشرة فى يوم فض اعتصام رابعة العدوية وكأننا نحن المسئولون، وفى المرتين تصدى للإرهابيين أهالى القرية من المسلمين عن طريق ضرب أعيرية نارية فى الهواء.. وفى المرة الثالثة جاءت مسيرة من مسجد أبو شكر فى العزبة فى تمام الساعة التاسعة والنصف مساء متجهة نحو كنيسة السيدة العذراء، وعددهم كان يزيد على 200 شخص من أنصار الرئيس المعزول، والكل يهتف «لا إله إلا الله – الله أكبر – حى على الجهاد - مصر إسلامية». المسيرة حاصرت بعض المنازل القبطية، ومنهم منزل كاهن الكنيسة، القس «بقطر سعد»، ومنعوا أصحابها من الخروج منها، والبعض الآخر اقتحم الكنيسة عن طريق كسر شباك القاعة الخارجية ثم دخلوا إليها وسرقوا كل ما بها من أجهزة وشاشات عرض وأجهزة كمبيوتر وأوانى المذبح وأجهزة كهربية وغرف نوم خاصة بفقراء القرية والأيتام.. بعدها بدءوا فى حرقها من أسفل إلى أعلى، والتهمت النيران أول طابقين بالكامل وبهم حضانة للأطفال ومكتب كاهن الكنيسة وألقوا برفات القديسين فى الشارع، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول للطابقين الثالث والرابع حيث تصاعدت النيران ومنعتهم، ففروا هاربين إلى من أعلى طوابق الكنيسة بالقفز على البيوت المجاورة. لا حظر.. ولا تجوال سمعنا شخصا يراقب الحوار من بعيد، ثم استجمع شجاعته وتدخل ليشارك فى الحديث قائلاً: «هى موتة ولا أكتر!.. هناك شخص يدعى بشندى وكان مرشح حزب الحرية والعدالة عن مركز كرداسة، وهو وراء كل أحداث الشغب وحرق كنيسة الملاك ميخائيل بكرداسة وكنيسة السيدة العذراء بالمنصورية، وهو من دبر التعدى على الأقباط وسلب ونهب منازلهم وهو من ينظم المسيرات وعلى علاقة بالجماعات المتطرفة فى القرية، بل إنهم يتخذون من منزله مكاناً للجوء إليه وقت الحاجة، ويقال إن بداخل المنزل مخزنا للسلاح لاستعماله ضد الأقباط». ينتقل الحديث بنا إلى شاهد العيان مينا .م ابن شقيق الكاهن وصاحب معرض أخشاب بجوار الكنيسة، والذى قال «أثناء حرق الكنيسة حاول بعض الأهالى المذعورين من مسيحيين ومسلمين الاختباء داخل معرضنا لمدة نصف ساعة، وهى المدة التى استغرقت لحرق الكنيسة، مما أدى إلى إتلاف المعرض بالكامل وسرقة الأجهزة التى بداخله.. وعندما استنجدنا بالجيش والشرطة لم تنجح قوات الأمن فى دخول القرية لأن الجماعة الإسلامية فرضت كردوناً أمنياً بقوة السلاح أثناء حرق البيوت والكنائس، وخافت قوات الأمن من زيادة الخسائر بشكل قياسى إذا حاولت الاقتحام عنوة.. وحتى اللحظة التى أتكلم فيها معكم فسيارات المطافئ لا تستطيع الدخول إلى القرية، لأن هناك سابقة التعدى على رجال المطافئ واختطافهم لأنهم حاولوا الوصول إلى الحريق والسيطرة عليه». يصمت مينا قليلاً وينظر إلى معرضه الذى سرق ثم يعاود الحديث قائلاً: (كرداسة – كفر حكيم – ناهية – أبورواش) مربع معزول تماما عن الأمن وعن مصر كلها، وكرداسة لا تسمع عن حظر التجوال إلا فى التليفزيون، ويكفى أن النساء المسيحيات والسافرات عامة يعتدى عليهن فى الشوارع واستفزازهن بعبارة «حرقنا كنيستكم وهنحرق بيوتكم»، ورغم هذا لم تتحرك قوات الشرطة لحمايتنا بعد، مما يجعل النساء القبطيات يعزفن عن المسير فى الشوارع». كنيسة متنكرة كان من الصعب أن نحضر للقرية ولا نزور الكنيسة التى نهبت، فانتقلنا إلى مكانها ووجدنا فى ذلك الموقع عمارة سكنية يبلغ طولها أربعة أدوار بجدران متفحمة للغاية.. سألنا الدليل الذى يرافقنا من أبناء القرية أين الكنيسة؟ فأخبرنا أن الكنيسة هى تلك العمارة المتفحمة.. فسألناه كيف ولا يوجد عليها صلبان ولا أى من المعالم الدينية المسيحية؟ فأجابنا أنه منذ إنشائها وشرط الجماعة الإسلامية ألا تكون هناك صلبان عليها من الخارج، ولا تستخدم مكبرات الصوت فى نقل الصلوات. دخلنا إلى الكنيسة التى تحاول أن تنفى عن نفسها أنها كذلك، وتحدثنا مع «جرجس .ب» حارس الكنيسة الذى انهمر من البكاء للحال الذى وصلت إليه قريته، ينظر إلى جدران الكنيسة ويحدث نفسة قليلاً ثم يتوجه إلينا بالحديث قائلاً: «وقت الاقتحام كنت فى بيتى، وأبلغنى أبونا بقطر بأن بيته محاصر بواسطة مسيرة من أنصار الرئيس المعزول، وبالتالى لم يستطع النزول لحماية الكنيسة، وطلب منى إخلاء الكنيسة تماما». جرجس قال إنه ما كاد يخرج من منزله حتى تعدوا عليه بالطوب وأعيرة الخرطوش فلم يتمكن من الوصول للكنيسة، وظل يشاهدها وهى تحترق من بعيد عاجزا عن فعل أى شيء. ورغم أنه رأى من دخل واقتحم الكنيسة إلا أنه رفض الإفصاح عنهم، بعد أن هددوه بالقتل والسحل إذا ما أعلن عن أسماء مرتكبى الجريمة. خارج الكنيسة المتفحمة التقينا بعض شباب القرية، فسألنا ماهر رضا، طالب بكلية الهندسة، عن رؤيته للأحداث فأجاب: «بعض الأسر المسيحية تلقت رسائل تهديد من قبل المتشددين الإسلاميين بالسرقة والحرق والاعتداء على منازلهم». وأوضح ماهر أنه كان فى محيط الكنيسة وقت الحريق وشاهد بعض زملاء الدراسة له يشاركون بإشعال النيران وإلقاء زجاجات المولوتوف على الكنيسة، والتقطت والدة ماهر طرف الحديث مضيفة: «تم محاصرة بيوتنا أربعة أيام، حتى اضطررت إلى الهرب للاحتماء لدى منزل جارى المسلم ومعى بناتى خوفاً من التعدى علينا». أما مارينا رضا، طالبة ثانوى، اعترفت أنها ممنوعة من الخروج نهائيا من منزلها خوفا من أنصار الرئيس المعزول، الذين يتعدون على الفتيات الأقباط لعدم ارتدائهن الحجاب ويصفونهن بالمتبرجات، وأكدت أنها عندما تضطر للخروج لابد أن يتم هذا بحماية من أخيها أو والدها، فرغم أن أسرتها تعيش فى القرية منذ عقود إلا أنها لا تستطيع المشى فيها وحيدة، حتى إنها اضطرت لترك منزلها وذهبت هى ووالدتها للاختباء لدى أقاربهما خارج القرية أثناء حرق الكنيسة. صلح لا يسمن ولا يغنى وكالعادة المعمول بها فى مثل هذه الأحداث تم عمل جلسة صلح بعد حرق الكنيسة حضرها العديد من أهالى القرية من المسلمين المعتدلين، منهم شيخ القرية الحاج إبراهيم الشيمى والشيخ عباس أبو زيد لمواساة الأقباط فيما حدث لهم، وحضر العديد كهنة كرداسة فى حضور أبونا بقطر سعد، وتعهدت الأسر المسلمة بالقرية بمساعدة الأقباط فى ترميم الكنيسة، كما حضر هذا الصلح من دبروا لمخطط حرق الكنائس وسرق ونهب ممتلاكات الأقباط بالقرية وهم الشيخ حمدان قائد المسيرة التى اتجهت ليلاً من جامع أبو شكر بالعزبة، وعادل منصور صاحب محل موبيلات بجوار الكنيسة، والشيخ محمود رفاعى الشهير بمحمود بطيخ، وعنتر بعرور.. وأخبرنا مصدر ممن شاركوا فى الجلسة ورفض الإفصاح عن هويته خوفاً من بطش المتشددين أن الجلسة لم تؤد لأى نتائج إيجابية، وقال: «لن تنفعنا جلسات الصلح هذه.. بل يجب أن يأخذ كل مخطئ عقابه بالقانون».