لا أستطيع إخفاء سعادتي بإنجاز اللجنة التأسيسية أعمالها في صياغة دستور مصر الجديد؛ إذ دستور البلاد هو الخطوة الأولى نحو استقرارها وتقدُّمها، لما يحدِّده من حقوق المواطنين وواجباتهم. وكم كنت أتمنى ألا تشوب هذا الحدَث العظيم في تاريخ مصر تلك الصراعات السياسية بين أبناء الوطن الواحد، مما أدى بالبعض إلى النظر لهذا المشروع العظيم بعين الازدراء بل والاتهام، وهو أمر يُجانب الصواب تمامًا، إذ فيه غَمْطٌ لجهد القائمين عليه من أبناء الوطن على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم. ومع أني لا أدعي العصمة لهذا الدستور الجديد من أن تتناوله يد النقد أو تتوجه إليه سهام المعارضة، لكني أحب التفرقة بين النقد الموضوعي، والمعارضة لمجرد المعارضة؛ فالأولى دافعة لتجويد الأداء، وتحسين العمل، بينما الثانية نوع من الفوضى لا يرضاها مصري يغار على منجزات وطنه ومَن فيه من الكفاءات العالية. لقد طالعتُ مسَوَّدة الدُّستور النِّهائية كلمةً كلمة، لا بعين العارف بالقانون، أو الخبير بالسياسة، فلست بهذا ولا بذاك، لكني طالعتها بعَين مواطن مصري يتعرَّف إلى ميثاق يضمن حقوقه ويُعيِّن واجباته. وإني وإن كنت أعبِّر عن رضائي عن غالبية مواده كمواطن مصري فإني أحب أن أذكر أيضًا تحفظي على بعضها؛ حيث فاتتها أشياء مما كنت أتمنى أن ينُصَّ عليها الدستور. كنتُ أتمنى أن يحقق الدستور استقلال الأزهر بصورة حقيقية، لكن المادة المتعلقة بالأزهر أعطت للسلطة التشريعية «البرلمان» حق التدخل في طريقة اختيار شيخ الأزهر، حيث جعلت مرجع ذلك إلى القانون، في حين نصت على أن شيخ الأزهر لا يعزل. فإذا حدَّد «البرلمان» أن يعين الرئيس شيخ الأزهر، بقي الشيخ بعد ذلك غير قابل للعزل بموجب الدستور حتى لو أراد عزلَه هيئةُ كبار العلماء! وكان الأولى في نظري أن تُترك طريقة اختيار شيخ الأزهر إلى هيئة كبار العلماء دون غيرها، فلا يسمح للغالبية السياسية مهما كان توجُّهها أن تتدخل في شؤون الأزهر. وربما كان المانع من ذلك الآن عدم الاستقلال المالي للأزهر عن الدولة، في حين ينبغي التنبه إلى أن الأزهر كان مستغنيًا بأوقافه مستقلا في تسيير شؤونه عبر التاريخ، حتى جاءت ثورة 1952م فاستولت على أوقافه وتقاسمتها وزارات الدولة ومؤسساتها المختلفة. وأنا أعلم أنَّ الإمام الأكبر لا يزال بوازع الديانة يطالب الحكومة الحالية والتي قبلها بردِّ أوقاف الأزهر، وتعويضه عما تبدد منها، مع إطلاقه مشروعًا جديدًا يدعو عموم المسلمين لوقف بعض أموالهم على الأزهر؛ مما يضمن له الاستقلالية التامة في قراراته ومقرراته. كنت أتمنى أن يحقق الدستور رقابة حقيقية على المؤسسة العسكرية، لكن المواد المتعلِّقة بالقوات المسلحة تؤسِّس فيما فهمت لوضعية خاصة للمؤسسة العسكرية، وتُلغي الرقابة الحقيقية على النشاط الاقتصادي للجيش، فضلًا عن الرقابة على الوظائف الأساسية له، مما يكاد يجعل المؤسسة العسكرية مستقلة استقلالًا مطلقًا، وهو ما يخالف الأسس الديمقراطية للدولة الحديثة. كنت أتمنى أن يحقق الدستور رقابة حقيقية للشعب على السلطتين التشريعية والتنفيذية، لكنه فيما فهمت يُلغي إمكانية محاسبة «البرلمان» أو الرئيس قبل انتهاء مدة انتخابهم، فليس للشعب حق في مراجعة قرارات السلطتين المذكورتين قبل تلك المدة، وهو ما يعارض مبدأ «سيادة الشعب» الذي نصَّ عليه الدستور. كنت أتمنى أن يحدد الدستور تعريفًا دقيقًا للجنسية المصرية، وآليات الحصول عليها، لكنه أحال ذلك على القانون، مما يعني أن يكون «البرلمان» القادم وحده مَن يمتلك الحق في تحديد من هو المواطن المصري. كنت أتمنى أن يتعامل الدستور بشيء من التفصيل مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ولكنه أجملها في مواد شديدة العمومية، لا تطرح الآليات اللازمة لتوفير العدالة الاجتماعية لكل المواطنين. هذه وبكلِّ وضوح تحفّظاتي على الدستور الجديد، ومع ذلك لا أوافق على تلك الحملة التشويهية التي يشُنُّها عليه جماعة ممن يُعارضون لمجرَّد المعارضة، بل وأحيِّي ذلك الفريق المصري الوطني الذي عكف على صياغته طيلة ستة أشهر مضت، لا سيما فريق الأزهر الشريف برئاسة شيخنا العلامة الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية، على ما بذله من جهد في مراجعة مواده وتنقيحها، وعلى دوره الوطني في محاولة جمع الشمل، والتوفيق بين التيارين الوطنيين، فيما يسمى بالمدني والإسلامي، ليتَّحد الجميع على مصلحة الوطن. سأصوِّت على الدستور ب«نعم»؛ لعلمي بأنه ليس دستورًا محصَّنًا يستعلي على التعديل والتغيير، ولعلمي بأنه ليس بكتابٍ منزَل، بل هو صنع بشر يجتهدون فيخطئون ويصيبون؛ فإن غلب صوابُهم خطأهم وهو الواقع بالفعل أُجِروا واعتُبروا؛، فليست الإصابة في كل شيء مما كُلِّفَ به المجتهدون وُسعَهم. والله الموفق والمستعان. [email protected]