تناولت صحيفة "هارتس" العبرية اليوم مقالا تحت عنوان "هذا ليس تمرد.. إنما حرب" وقد زف الى العالم آنذاك ميلاد الانتفاضة الفلسطينية الاولى في كانون الاول (ديسمبر) 1987 وكان كاتب هذا المقال - الدكتور مكرم خوري مخول، من فلسطينيي 1948 - شاهداً على الحدث في قطاع غزة. كنت حينها صحفياً شاباً اعمل في ملحق صحيفة "هارتس" العبرية في تل ابيب. وكانت الصحيفة قد طلبت مني السفر في مهمة من مدينته يافا صباح يوم الخامس عشر من ديسمبر 1987 الى قطاع غزة لتغطيه ما اتضح انه يوم مشهود تخللته احداث دامية لأكتشف انني كان الصحافي الوحيد في قطاع غزة بعد ان اعلنت سلطات جيش الاحتلال الاسرائيلي قطاع غزة منطقة عسكرية مغلقة. وقد اصبت في وجهي اثناء التغطية التي استمرت زهاء عشرين ساعة. وبعد اصابتي اجريت لي عملية في مستشفى الشفاء في ظروف قاسية وتحت ازيز الرصاص والتوغل العسكري الى جوار المستشفى. ورغم ذلك فقد رفضت البقاء في المستشفى او نيل قسط من الراحة واكملت تحركاتي بمساعدة من القادة الميدانيين ومجموعة من المثقفين امثال المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي والمحامي راجي الصوراني والدكتور رباح مهنا وآخرين الى ان شاهدت عمليات قتل نفذها جنود الاحتلال وجمعت شهادات صاخبة كثيرة حتى استطعت رغم فرض حظر التجول العودة الى يافا ومن ثم الى المستشفى الذي غادرته لاحقا لتصميمي على كتابة التقرير رغم اصابتي. ويشار الى انه في تلك الحقبة من الزمن، اي قبل تطور تكنولوجيا الاتصالات، في عصر كان يخلو حتى من اجهزة التكنولوجيا لا سيما الهواتف الخليوية، كان من الصعب نقل الخبر عن حدث تاريخي كانطلاقة انتفاضة بسرعة حيث كان جهاز الفاكسيميلي اكبر انجاز في تكنولوجيا الاتصالات (من مرسل واحد الى شخص متلق واحد وليس كالانترنت الذي يسمح لشخص/مرسل واحد الارسال الى عدد كبير من المتلقين). وبسبب التواصل عبر الفاكسيميلي ما بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، فقد منعت سلطات الاحتلال استعمال جهاز الفاكسيميلي خلال الانتفاضة الاولى. كما لم تكن في ذلك الحين قنوات فضائية، ولا سيما العربية منها، ولا شبكة الانترنت او وسائل التواصل الاجتماعي، الامر الذي جعل امكانية توزيع ما اصبح سبقا صحافيا عالميا عن حركة مقاومة شعبية فلسطينية دخلت التاريخ المعاصر كابرز المواجهات بين شعب ومحتل مسألة بطيئة بمفاهيم يومنا هذا. اما العامل الآخر الذي منع توزيع التقرير الصحافي بسرعة فيكمن في الرقابة الذاتية للصحافيين الاسرائيليين الذين تخدم الغالبية منهم في احتياطي الجيش. ويشار الى ان تسريب التقرير حول هذا الحدث غير العادي حصل عبر ترجمة مقتطفات منه واقتباسه من قبل بعض الصحافيين الاجانب وبعض الصحافيين الاسرائيليين الذين يعملون لصالح وسائل اعلام اجنبية مثل الكاتب اليساري ومراسل صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية شالوم كوهين. خلال بضعة ايام تمت ترجمة التقرير الى الالمانية والاسبانية والى لغات اخرى. كما ترجم التقرير الى اللغة الانجليزية من قبل العديد من الصحافيين والاكاديميين وفي مقدمتهم المرحوم البروفيسور اسرائيل شاحاك. وقد وصف الراحل المرحوم البروفيسور ادوارد سعيد تقريري في عدد من كتاباته ب "التقرير البارع في وضوحه وجرأته". أما كبير مراسلي شبكة "سي بي اس" بوب سايمون فاطلق على خوري-مخول لقب "متنبئ الانتفاضة" لانه اصر علىانها موجودة ووصفها بانها حرب. صعق هذا التقرير المؤسسة الاسرائيلية بكل مركباتها، بما فيها الاجهزة السياسية بقيادة رئيس الحكومة آنذاك اسحق شامير، كذلك الجهاز العسكري بقيادة وزير الدفاع اسحق رابين، اذ تحول التقرير الذي نشر بالعبرية في صحيفة اسرائيلية ولكن من قبل صحافي فلسطيني من يافا يتقن العبرية (اضافة الى ما تضمنه التقرير من معلومات واكتشافات) الى حديث الساعة ولمدة شهور. وقد شنت المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة حملة اعلامية ضد مكرم خوري-مخول لانه "ذبح" سمعة "البقرة المقدسة" الوهمية - اي جيش الاحتلال - في المجتمع الاسرائيلي والعالم. ذلك ان التقرير ازال القناع عن ما يسمى "الجيش الاخلاقي" واسقط القناع عن الاحتلال الاسرائيلي بشكل عام ما جعل الكاتب الصحافي غيل رونين يقول ان مكرم خوري-مخول سبب ضررا جسيما لسمعة اسرائيل في العالم. وبالايعاز من جهاز الامن والتنسيق مع الجيش، شن كبير المحللين العسكريين في اسرائيل آنذاك المخضرم زئيف شيف حملة اطلق فيها على مكرم خوري-مخول تعريف "المراسل العسكري الفلسطيني" للنيل من مصداقيته وسمعته، لكي يُْهَمَ ان مكرم خوري-مخول "تعدى" على مجال صحافي (عسكري) متاح للصحافيين الاسرائيليين ومقتصر عليهم فقط. كما تم وصف تقرير مكرم خوري-مخول من قبل الكاتب الصحافي يعقوب هعليون في صحيفة "معاريف" ب "النص الكتابي الذي يتجاوز تلك الاساليب التي رافقت افران المحرقة اثناء النازية". وكان قد قام من اصبح لاحقاً رئيسا لحكومة اسرائيل وقائد حرب 2008 على قطاع غزة (المحامي وعضو البرلمان عن"ليكود") ايهود اولمرت بتقديم شكوى ضد خوري-مخول بتهمة "التحريض على التمرد" فخضع مكرم خوري-مخول الى تحقيقات عسكرية وشرطية بهدف ارهابه والحصول على معلومات امنية عن تحركات قيادة الانتفاضة في قطاع غزة.