لا تكاد تمر سيارة بين كمينين في شوارع المحروسة اليوم حتى تستوقفها آلاف الصيحات وآلاف الأقدام الثائرة التي ملت الجلوس على رصيف عالم لا تقف في محطاته قطارات الغوث. وفوق كل رصيف يقف متسوقو الأمل ملوحين ومهددين، وكأن قبورهم السرمدية انشقت عن آخرها لتخرج من بطونها أحياء كفنتهم منذ عصور أياد مستبدة وأعادتهم نفخة في قرن ثور جموح. تنظر في الوجوه فتعرف عروقها المشدودة المتوترة، وجلودها اليابسة المغضنة. وتنظر في العيون فترى بريق أمل وومضة حياة لم تعرفها عيونهم التي استمرأت البكاء حينا من الدهر لم يكونوا شيئا مذكورا. ويأخذك العجب وأنت ترى ظهورا حدبت تضاريسها قسوة الأنيار وألهبتها سياط الجلادين دهرا وسفعت بشرتها شموس ضحى تلظت حمما فوق عروقهم النافرة وقد استقامت في مشيتها فوق رصيف العالم لتعلن عن تمردها على الثياب البالية والأنسجة الرخيصة. لم يعد الناس في بلادي مجرد أُجراء في حقل أو عمال في مصنع، أو سلال تحمل القمح والشعير لأي عتريس وإن كان عادلا، فقد استبد بروحهم الأمل في غد آخر يعلنون فيه عن شراكة غير منقوصة في الثروة والحكم. لم يعد الناس في بلادي ينحنون كما تعودوا في القديم لنجوم مثلجة فوق أكتاف مقددة، ولم تعد ألسنتهم تفرك الحروف فوق أطرافها في محاولة للتدفئة أو التهدئة، فقد عرفت حناجرهم النبرات العالية والكلمات الكبيرة، وتعودت أعينهم أن تقذف كبار القوم بشرر كالقصر وحمم كالجبال دون أن تقرأ أثرها أو ردة فعلها في وجوه لطالما انتفخت أوداجها كبرا وبطرا. يعرف الناس في بلادي اليوم أنهم حرافيش الأرض الذين خرجوا من كهوفهم القديمة ذات بعث ليكتشفوا أن الأرض لهم، وأنهم ورثة شرعيون لما ترك قارون وخلّف فرعون. هكذا عرفت أحذيتهم البالية وأقدامهم الهرمة طريق القصور ومديريات الأمن وساحات القضاء. ورافقتهم الصور والكلمات في كافة المجلات والجرائد والاستديوهات المغلقة، فارتفع صخبهم وضجيجهم فعلا فوق صوت العقل وهدير الآلات وصراخ أطفال يتلمسون طريقا آمنا بين أقدامهم المفلطحة. ودارت خمر النصر في كئوس من صلصال لتعد بتحول أشعة الفجر نحو قبور لطالما سكنها اليأس والجوع والفقر لتخرج شمس الضحي من مغرب البؤساء، وتتحول بوصلة التاريخ لتشير إلى أقوام أتوا إلى هذا العالم ذات لهو، وعاشوا فيه سهوا، وغادروه دون أن يشعر بهم أو يأسى لهم أحد. هكذا عرفت الأقدام المحرومة من توازنها نفرة الفقراء فوق جبل العزة، فتحركوا نحو التاريخ فاتحين صدورهم لاحتمالات أخرى. لكن بعض المغالين في مهور أحلامهم ظنوا أن سماء الحلم التي أمطرت فوق تربتهم المشققة آمالا عريضة سوف تمطر اليوم ذهبا وتسقط فضة، فخرجوا إلى الشوارع فاتحين طيات ثيابهم مفترشين الأرصفة والباحات في انتظار مدد لن تأتينا به إلا الطائرات الحاملة للشروط المجحفة والفوائد الباهظة. ومن غريب أنهم يذهبون إلى سفارات اتفقت الرؤوس على كيدها باسطين يدا للسؤال وملوحين بأخرى في مشهد هزلي مخز لم تتطرق إليه أذهان راسمي الكاريكاتير يوما. كيف يرفع الخارجون من مقابر التاريخ اليوم رؤوسهم، وهم يولونها شطر بنوك تلوي عنق مستقبلنا وتضع مصير رضعنا في الرغام ويدعون أنهم على خير. ألا فليعلم قوم موسى الذين يستبدلون رغد العيش الذي هو أدني بالكرامة التي هي خير أنهم لن يصلوا إلى شيء، وأن كثرة مطالبهم وضيق يد الوطن ستضع السلاسل في قدمي بلاد تنهض للتو من تابوتها وأنهم يجرونها بإطارات الديون المطاطية نحو هاوية أخرى وتابوت جديد. ألا فليتوقف النائحون فوق مطالبهم الآنية، وليربطوا على خصورهم قليلا حتى ينشط الوطن من سبات وتعود دماء الرخاء تتدفق في وجنتيه بعد أن اعتصرتها الأيدي الظالمة دهورا، وليتوقف الماكرون عن العزف على أوتار الحاجات وهم يرددون لحونا أنانية تريد الإيقاع بالغريم السياسي دون النظر إلى وطن يوشك أن يسقط في فخ التاريخ. أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]