حين فقست بيوض الثورة، وخرجت صيصان الوطن من تابوتها الطباشيري، تراءى للحالمين أن القدر ينسج قضبانا من الأمل تقود البلاد نحو فجر مختلف. لكن مفاصل الصيصان لم تكد تستقيم فوق قشورها المفتتة حتى تحولت إلى جوارح تقضم تاريخها وتحلق في عراء فتوتها فوق كل المتاهات. ولأن أحدا لا يعلم السر وراء انهيار بركان الجليد الوجودي لشعب تعود الانحناء والتثاؤب أمام فواجع التاريخ، حاول المتمردون على قشورهم أن ينتموا إلى حمم البركان التي كانت تندفع سريعا نحو المجهول. وبدأت الهتافات بالتحول تدريجيا إلى شعارات عقائدية، يكفر من يتنكر لها ولا يستتاب. وهكذا تحول المثقفون في بلادي إلى قطعان ثورية تثغو بفتات الفكر وتدفن وعيها في إخمص رعبها القادم من أوعية الميادين الهادرة. وشيئا فشيئا، خمد اللهيب ووجد الثائرون أنفسهم أمام أسئلة وجودية تتعلق بالانعطافات المتتالية التي تحملهم شيئا فشيئا إلى مصير لا يرضونه خلف شعارات تتطابق أحيانا وتتنافر أخرى. عندها بدل الثائرون حناجرهم ببعض اللافتات وبعض المطالب، واختار الواقفون أمام مزادات الشعارات ما يتوافق مع رؤاهم لتضاريس المستقبل الوجودي. وتحولت الثورة الوطنية التي ضمت ملايين المنسيين إلى ثورة فئوية تصنف الناس حسب الرؤى والمناهج والمعتقدات، وعادت المصطلحات التي زينت أكشاك بائعي الجرائد وأغلفة الكتب والمجلات في ستينيات القرن الماضي إلى الظهور مع إضفاء بعض القدسية والألوان الفاخرة والصور التي انتمت إلى بركان تحولت حممه اللاهبة إلى صخور باردة كقطع الجليد المكومة فوق القطبين. ولما تكاثرت اللافتات وقل المنتسبون إلى وعيهم، كان لابد من تزييف الصور وتغيير الملامح لإقناع من لا يمكن إقناعه بصلابة الأيدي المصلوبة فوق انتماءاتها. لهذا، حاولت كل فرقة تزيين لوحاتها ببعض العبارات الثورية رغبة في استمالة القلوب إليها، لكنها كانت في حاجة ماسة إلى إضفاء بعض المنطق - وإن كان مغلوطا أو مبتسرا - على شرعية توجهاتها. ورويدا رويدا، تحولت الحجج إلى أسانيد لا يأتيها الباطل ولا يعتريها الشك. وقادنا المنطق المعوج إلى إدعاء العصمة الدينية والعصمة الفكرية والعصمة الوطنية، وانتهينا إلى ما تنتهي إليه قدرا أفراخ الوقواق التي تصارعت ذات جهالة على دفء عش تنتهبه الجوارح وتنهشه الرياح من كل جانب. وفرحت كل أمة بما أوتيت من خواء، لنجد أنفسنا بعد طول سهر أمام جيفة وعي وأسمال وطن ألقاه أخوة يوسف ظلما في بئر الكراهية. فلا المتحدثين باسم الله ينتمون إلى حزب الله ولا مدعي التحرر الفكري ينضوون تحت لواء الفكر المستقيم. وتفرغ المتلاحون لجمع الأكاذيب التي تبرر الكراهية، والاتكاء على عكازة الكراهية التي تبرر الأكاذيب حتى وقف المغلوبون على حيادهم وقد أسقط في أيديهم أي الفريقين شر: أولئك الذين تفرغوا لحشد الأكاذيب التي تدعم بناء مجتمع الكراهية، أم الذين دفعتهم الكراهية لبناء أسطول فاجر من الأكاذيب. وهكذا وقع الطيبون الذين أرادوا مجتمعا بلا لافتات وبلا أحقاد إلى الوقوف في معسكر التائهين على طريق عدمي بين إطارين امتلآ بوعي فاسد وادعاءات مضللة. لم تعد الحجة إذن سيدة الموقف في شجارنا الهمجي الذي زاغت فيه الأبصار واختلط على الناظرين فيه الفهم حتى أصبحوا لا يميزون بين يمين الوطن ويساره، بل صار الزيف والقذف وشهوة الانتقام دستور النزال الذي تحكمه البطون والفروج لا العقول والأفهام، وتتحكم فيها الانفعالات والتوترات لا المنطق والوعي. وفي وطن تتحول الفكرة فيه إلى حذاء يضرب به المعارضون رأس النظام، وسيف يسلطه الرقيب على من يشاء من الممتعضين، ويدس فيه بعسل الدين ومَنِّ الوطنية، يخرج حتما قطار الوعي عن مساره، وتتحول رؤوس المثقفين إلى رؤوس بصل لا تنضح إلا بما يزكم العقول. وفي مجتمع كهذا، يُخشى على الحكيم حياده، لأنه لن يسلم حتما من سياط القهر المشرعة في سلاسل همجية على جانبي الوطن. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]