لم يشعر ألكسي ماكسيموفيتش بيشكوف المعروف عالميا بماكسيم جوركي بفقد والديه اللذين رحلا عنه في سن مبكرة، لكن رحيل جدته دفعه إلى محاولة انتحار فاشلة وهو في ريعان مراهقته. وبعدها هام الرجل على وجهه ليجوب الاتحاد السوفييتي سيرا على الأقدام متنقلا من قرية إلى مدينة ومن عمل إلى آخر مما أثرى تجربته الوجدانية كثيرا وأهله لما كان ينتظره في رحم المستقبل الروسي من مهام وجودية. وقد استطاع جوركي أن يصنع له في عالم الصحافة إسما يليق بقامته السامقة عام 1898 بعد الميلاد. لكن هذا الأديب الرائع كان ينظر إلى الأدب على أنه مجرد ممارسة جمالية لا تغير في واقع الأحداث شيئا رغم حرصه الشديد على الصياغة الأدبية لمقالاته السياسية. أما ما ينفع الناس في نظر ماكسيم ويمكث في أرض روسيا تنظيره السياسي القابل للتطبيق في حياة البسطاء، لهذا أسس الرجل مذهب الاشتراكية الواقعية في الأدب. في مقالي هذا لا أريد أن أتحدث عن معارضة جوركي للقيصر الروسي ولا عن سنوات سجنه أو منفاه الاختياري، ولا عن قربه من صناع السياسة الكبار ولا عن ثورته البلشفية البيضاء، ولا عن تحوله فيما بعد لصفوف المعارضة الوطنية. فقط أريد أن أتناول إحساس هذا الرائع بالبسطاء الذي طغى على معظم أعماله الإبداعية وأفكاره الثورية. فقد كان الرجل يرى أن السياسة التي لا تهتم بالفقراء سياسة فاشلها مهما جملتها مساحيق الكذب وسوقت لها الخطب الرنانة. وفي رائعته "حبيبها" يجسد ماكسيم جوركي تلك القيم الإنسانية النبيلة في صورة امرأة فِيليّة ذات ملامح رجولية محروقة وكأنها عاملة منجم خرجت من حفرته للتو، وعن مطاردتها لطالب يسكن نزلها ويقيم قبالتها ويتحاشاها كلما جمعتهما الصدفة على الدرج أو فوق السطوح. ويحكي عن صدفة جاءت من غير ميعاد جعلت تلك المرأة تلملم مشاعرها الجريحة لتقتحم على الطالب خلوة نسي بابها مواربا بعد طرده من المدرسة جراء تأخره المتكرر. يرمقها الطالب في حنق، وتتقدم نحوه في دعة لتطلب منه أن يكتب رسالة لحبيبها. يكتب الطالب الرسالة ويعيد قراءتها على المرأة التي تغادر مخدعه فور دسها في طيات ثوبها الفضفاض. ويتكرر المشهد، وتتكرر النظرات المستبدة والأعين المتوسلة، ليكتب الطالب رسالة من حبيبها إلى صديقتها التي ظلت تحبه دون أن تعلم بالعلاقة التي تجمع صديقتها به. في البداية، يرفض الفتى الكتابة ويلقي في وجهها بياض الصفحات، لكنها تستجديه وتعترف أنها تكتب لنفسها ليقرأ عليها رجل - أي رجل - ما تريد أن تسمعه. وبعد ثورة مؤقته، يكظم الطالب غيظه ويجلس مرتين كل أسبوع ليكتب ويقرأ للعينين الحالمتين سطور حلم لا يجيء. ما أسوأ أن يصنع المرأ حلمه في الليل ليقبله في الصباح ويقتات عليه طيلة ساعات الكد ليلعق جراحه في الليل ويمهد لحلم آخر يكفيه المسألة. وما أقسانا ونحن نتعامل مع أناس لا يملكون إلا الحلم بقسوة طالب غرير لا يحسن العزف على أوتار الحاجات الإنسانية الملحة. أي فضيلة يمكن أن يدعيها الطالب وهو يقف أمام هذا الهرم من اللحم المكتنز؟ وأي زهد يمكن أن نفخر به ونحن لم نتعرض لمحنة النبذ وفريضة الألم؟. وأي فخر يمكن أن يدعيه مهندسو السياسات وراسمو الخرائط وهم يتركون خلف آذانهم الموجهة نحو دقات نعالهم المقدسة فوق رصيف هذا العالم مئات من المشردين الذين لا يجيدون إلا صناعة الأحلام الكاذبة والآمال التي لا تأتي أبدا؟ وأي حياة تلك التي تجوب فيها أبصارنا كل الفيافي والقفار والدروب الوعرة لكافة الأزمنة وكل الخرائط ولا تنعطف نحو أقرب ناصية يجلس فيها فقير القرفصاء بساق واحدة فوق حلم يتيم. ليتنا نتوقف قليلا عن ادعاءاتنا الكاذبة بالرغبة في تبسيط الخرائط ليفترش فيها الأغنياء مواسم الفقر أو يجلس فيها عرج التاريخ بنصف مقعدة على كرسي الرئاسة أو حتى مقاعد البرلمان. سحقا لعالم احتل الفقراء هامشه واكتفوا بمقاعد متأخرة جدا وإضاءة خافتة للغاية تسمح لأعينهم بقراءة رسائلهم التي لا تصل لأحد.