يمتلك مكسيم جوركي الأديب الروسي الشهير، مكانة مرموقة في تاريخ الإبداع الإنساني الرفيع، فهو علامة فارقة وقامة شامخة من قامات الوعي والفن والثورة والجمال، كانت أعماله ولاتزال مسارا للبحث عن الحرية وعن كبرياء الإنسان. عندما كتب مسرحية «الحضيض» 1902، التي عرضت علي المسرح في نفس العام، أثارت ردود فعل عالية يستحيل وصفها، فقد سمع العالم صوت البؤساء، ولامس عذابات المقهورين، وأدرك أن الجمرات الساكنة في صدور الشعوب سوف تشتعل بنيران الثورة ووهج المعرفة. كتب مكسيم جوركي عن عظمة الروح الإنسانية فتجاوز حدود الواقعية، لم يصور الروح وحدها، بل صور الإنسان كاملاً عاريا من كل ما يستره، لذلك جاءت لغته قاسية صادمة دقيقة وصارمة، وظل كيانه الإنساني متحكماً في حضوره السياسي، ليمنحه نفاء ثوريا عارما، دافع به عشقه للشعب الذي قاسمه الآلام والعذاب، وكما تكشف أعماله الروائية والمسرحية، فإن جورجي قد امتلك الوثائق الإبداعية، التي تثبت أن الثورات تصنعها الشعوب بصورة عضوية، عبر ايقاعات التوتر التي تحاصر الملايين في لحظة لم يعد بالامكان احتمالها. تجاوز جوركي كل الأسس المسرحية السائدة في زمنه، وضرب عرض الحائط بالقواعد الكلاسيكية والحديثة، وتجاهل وحدة الحدث والصراع ومفهوم الحركة، وهدم الأسلوب التقليدي للبناء المسرحي من عرض وعقدة وحل، واتجه نحو الأوتشرك، الذي سبقه إليه انطوان تشيكوف، لكن جوركي ظل محتفظاً بوضوح الرؤية الثورية. من الموكد أننا أمام إبداع شديد الثراء، يموج بالثورة والوعي والعشق والحرية، يقبل الجدل ويثير التساؤلات ويشتبك بحرارة مع وقائع وجودنا الشرس، الذي استلب الروح ودمر الجسد، وحول الموجود إلي هوامش ضيقة، شوهت البشر وقتلت المعني، وانتهكت البراءة واغتالت الأحلام، ولعل هذه الموجات الثائرةهي التي شاغبت أعماق المخرج الفنان سامح بسيوني، ليعيش مغامرته المثيرة، ويقدم للمسرح المصري تجربة شديدة التميز، تنتمي للفن الراقي الجميل، وتكشف عن يقين عارم بأن المسرح هو المسار إلي امتلاك الذات والحرية. ميلاد صاخب كان ميلاد مسرحية «البدروم» صاخباً وجميلا، فالتجربة تنتمي للمسرح المستقل والإنتاج جاء كمشاركة بين أعضاء فريق وشركة روانا، والأجور تعتمد علي إيرادات شباك التذاكر، وفي هذا السياق الرشيق تعاون المؤلف مصطفي سليم مع الدراما تورج جمال ياقوت، في صياغة نص ينطلق من حضيض جوركي، ويشتبك مع رؤاه وتوجهاته، حيث المضامين الإنسانية الثائرة، التي جاءت مرتبطة بمصر وعذابات شعبها، فبعثت رسائل للوطن، ورسمت أحلاما للمستقبل، ويذكر أن تشابه الظروف التاريخية والاهتراءات الاقتصادية، ووقائع الفساد والتسلط والاستبداد، قد أتاحت للمؤلف والدراما توج مساحات عريضة لصياغة نص اجتماعي الملامح، سياسي الأبعاد، يموج بالنقد اللاذع والجروتسك الساخرة وكان القالب الكوميدي الموسيقي باعثا للتفاعل ومثيرا لوهج التساؤلات. تميزت مسرحية «البدروم» بامكاناتها الصاخبة لجذب الجمهور، عبر إدراك المخرج سامح بسيوني لماهية المسرح كفن وفكر وفرجة وابهار، حيث تكشف لغة الإخراج عن جماليات مغايرة، وانطلاقات جامحة، وتفاصيل ثرية، ومقدرة متميزة علي قيادة فريق عمل ضخم جمع بين حرارة الشباب وسحر الخبرة الناضجة، وفي نفس السياق بعثت نجومية أبطال العرض وحضورهم اللافت حالة من البريق والتصاعد والأداء الهارموني الجميل. تدور الأحداث في إطار تشكيل سيموغرافي ثابت، حيث «البدروم» الذي يضم كل شخصيات المسرحية، الايقاعات الرمادية تشتبك مع البرودة والغياب، والفقر يعانق القهر لتروي الموتيفات المتناثرة تفاصيل العذاب، وتظل مقدمة المسرح كاشفة لأسرار الليالي والخوف والدخان والنسيان. كانت الأخشاب والإطارات تتحدي الكراسي والبرميل والأريكة الوحيدة، أما الجدران الباهتة والألوان الضبابية الغائمة، فهي تهمس للظلام والرطوبة، وتراقص المنخل الكبير وحزمات الثوم البيضاء، وعبر تقاطع الموسيقي الصاخبة مع كلمات الأغنية المتدفقة، نشتبك مع هذا العالم المخيف المسكون بالوحشية والشراسة والظلم والباحث عن مسار للضوء والشمس والحياة، وعندما تفتح الستار يأخذنا الجمال الشرس لسينوغرافيا العمق الرحبة، حيث تقاطعات الأسود والرمادي والأبيض، والمنظور الكامل لرسم ثلاثي الأبعاد، شديد الايحاء يبرز تفاصيل البدروم بكل ما فيه من سلالم وأبواب وحجرات وتظل مرواغات الجمال تخترق الحدود الفاصلة بين الرمز والتجريد والتجسيم، وموجات الدلالة والايحاء. خطوط الحركة في هذا السياق يأخذنا الضوء وخطوط الحركة إلي الآنسة لولا، المذعورة من القذارة والصراصير، تعيش أقصي تناقضات وجودها، فهي ارستقراطية راقية، استلب منها الزلزال كل شيء، واندفعت إلي هذا الجحيم الهامشي، فاستغرقت في مونولوجها الخاص، تحلم بالحب والفارس، تدافع عن أنوثتها وانسانيتها، وحين يأتي سيد الحلاق، تنطلق ايقاعات الغناء الشعبي، ويرقص الفتي، وتقلده هي، الكلمات تكشف عن أحلامه وأحزانه واندفاعاته والخمر الرخيص والكانزات والأقراص يمنحونه وهم امتلاك العالم، والباروكة الصفراء في يديه تتحول إلي كل نساء الدنيا، لكن الشوق يدفعه إلي لولا يشاغبها يراقصها ويكاد يعانقها، وتشهد خشبة المسرح إيقاعا متوترا وحركة لاهثة، تتقاطع مع الضوء الذي يكشف عن السيدة الجميلة الناضجة «انشراح»، التي تدفع بالفتاة إلي الداخل، وهي مأخوذة بمشاعر الأمومة العارمة، وفي نفس الإطار تأخذنا الحالة المسرحية الرشيقة إلي كشف مثيرعن أعماق انشراح، فهي تريد قمصان نوم بمبي وفوشيا وموف، وتحلم بالدفء والعريس والشهامة والفارس، لذلك تطلب من الفتاة الصعيدية الجميلة أن تبحث لها عنه، هكذا تنطلق موجات الكوميديا والافيهات الضاحكة، وتظل نبيهة الصعيدية باعثة لحالة شديدة الخصوصية من التفاعل والحضور. تقاطع الأحداث يتوالي ظهور الشخصيات، وتتقاطع الأحداث مع عذابات القهر، ورائحة البانجو ورطوبة الجدران، ويضحك الجمهور طويلا مع «سمير» النصاب العصري، يستخدم اللاب توب ويحتال علي البسطاء، حيث أوهام الإعلانات والشقق والأغلقة ورغم سقطاته وعذاباته إلا أننا نراه دائما كضحية دفعها المجتمع إلي الجريمة، تلك الحالة التي تمتد بظلالها العميقة علي سكان البدروم في عزبة الشندويلي الذي يبعث صرخات نارية جائعة تحذر من انفجار مخيف بعد أن اختنقت الصدور برائحة القهر العنيد. كان دخول التك توك إلي خشبة المسرح باعثاً لفيض من الدلالات والاحالات، التي تشتبك مع وقائع استلاب شريحة عريضة من شباب مصر، تبلورت أبعادها عبر شخصية «علي» التي تختصر معني الصراع مع الحب والفقر والبطالة، فهو يعشق العاهرة الشريفة، يحب مصر والنيل والليل.. والكورة، ويبحث عن مسار للخروج من البدروم، لذلك كتب إيصالات الأمانة واشتري التك توك وعجز عن السداد وظل مؤرقاً بأشباح القضبان، ورغم كل التحديات كان مشدوداً للحياة.. يحاورها ويشاغبها، ويعيش وجوداً عبثياً تتضح أبعاده عبر علاقته بصديقه «هيصة»، الذي اعتاد العذاب والغياب، ودخل إطار الحدث ليمنح الحالة المسرحية توتراً وبريقاً، فهو كوميديان مدهش يمتلك طاقات واعدة تفاعل معها الجمهور. يأخذنا التضافر الهارموني بين إيقاعات السقوط والصعود، إلي حالة من الإبهار، تبعثها تناقضات الكشف عن طبيعة شخصية سونة.. العاشقة العاهرة الجميلة، التي تبيع جسدها لتواجه الحياة..، لكنها معذبة بحكايات الليالي الرخيصة ومهانة الحضيض، وفي هذا السياق يشتبك الضوء مع الموسيقي والحركة، ونراها مع حبيبها صاحب التك تك، تيار المشاعر يثير فيضاً من الجمال حين يركع ويقبل يديها ويسألها عن أسرار لياليها والرجال، الوضوح القاسي يكشف أبعاد قصة غريبة، والحوار يؤكد رغبتها في الزواج، والهروب من زمن النشوة والسقوط، فلعلها تستعيد براءة الجسد والروح. عندما هربت نبيهة ابنة الأقصر من جحيم الثأر إلي جحيم البدروم، ظلت محتفظة بتلقائيتها الساذجة، التي تبلورت جمالياً عبر علاقتها بسمير النصاب حين كشف لها عن لغة عالم جديد.. حديث وسريع، يتواصل علي الفيس بوك واليوتيوب، وعبر الفجوة الواسعة والتناقضات المتوترة، اقترب منها الفتي وشاغبته براءتها الجميلة، علمها كيف ترقص الراب، وعلمته التحطيب ورقص العصا، واتخذت الحالة المسرحية مساراً فعلياً نحو دهشة ا لجمال والإيقاع، واشتبك الجروتسك مع الميتاثياتر والتعليقات الساخرة، وجاءت الصياغة الجمالية لتقنيات كسر الإيهام لتكشف عن بصمات إخراجية رفيعة المستوي. أسرار الليل كانت حجرات البدروم مكونة بأسرار الليل والجنس والحب والإحباط والعذاب، وكانت كل شخصية جديدة تضيف للعرض أبعاداً إنسانية واجتماعية، تدين سياسة التسلط والاستبداد، في سياق التفاصيل الغزيرة لهذه البانوراما الأفقية نتعرف علي طالب الفنون الذي انفصل عن واقعه ليعيش حلم الشهرة والنجومية القادمة، كانت حجرته مليئة بالصورة العارية، وكيانه مشدود إلي الجنس والنساء، وفي تلك الليلة الفاصلة اندفع الفتي إلي أهوائه، وغاب في الداخل مع إحدي فتياته، وشهدت خشبة المسرح حالة من التصاعد والتشويق عبر التوظيف الرشيق لتقنيات المونتاج ولغة الإبهار، حيث يشتبك الضوء والدخان مع الرقص والغناء، ونتعرف علي المعلم «فوقي» صاحب البدروم وزوج الشابة الجميلة محاسن، التي تسكن إحدي حجراته، ونصبح أمام مسار مختلف للأحداث الآفقية، حيث يتبلور نوع من الصراع بين مالك البدورم وكل سكانه الفقراء، فهو يهددهم بالطرد لأنهم لم يدفعوا ايجار الحجرات، وفي هذا الإطار نواجه العديد من المفارقات الساخنة، وتعترف محاسن أن المعلم المخيف لا يمتلك رجولته، وانها لاتزال عذراء بعد عشر سنوات من الزواج، وهكذا يشتعل الصراع، ونتعرف علي المزيد من الشخصيات، وأخيراً يحصل المعلم علي حكم نهائي بطرد جميع السكان. رغم أن هذا الفعل يصلح كنهاية للعرض، ويضع حدا لجاذبية الاستغراق في حياة الشخصيات، إلا أنه جاء كمسار جديد للعزف علي أوتار الهزائم والانكسارات، حيث امتلك معظم الأبطال الحق في التعبير عن الذات وكشف المزيدمن الأسرار والملامح عبرالمونولوجات الطويلة الساخنة، التي استلتب الكثير من حيوية العرض، ويذكر أن الجماليات المجردة للافيهات والموسيقي والاستعراضات لم تحل اشكالية التطويل في عرض البدروم، الذي تحققت أغراضه تماماً في الفصل الأول. يأتي المشهد الأخير ليضعنا أمام مواجهة عارمة لخطايا السياسة والاقتصاد وتشهد خشبة المسرح وجوداً كاملا لكل سكان البدروم، منظومة الضوء الدرامي تكثف تيار المشاعر، والحوارات تتقاطع لترسم الطريق أمام ثورة حتمية علي حياة الحضيض، وفي تلك اللحظة التي شهدت موتاً معنويا للجميع، تأتي ايقاعات ميلاد جديد، حيث يصل محضر المحكمة ليسلم انشراح الحكم باستلام ميراثها، وتمتلك الفدادين العشرين التي انتظرتها طويلا، وهكذا يتحقق الحل المثالي النبيل، وتقرر السيدة أن تذهب إلي عالمها الجديد ومعها كل سكان البدروم، ليصنعوا معا وجودا خصبا مشرقا بالأحلام والجمال. شارك في المسرحية فريق عمل شديد التميز فكانت الفنانة الجميلة د.سميرة محسن هي إضافة حقيقية للعمل، عبر حضورها المشع وخبرتها الناضجة، واحتوائها للطاقات الشابة وتفاعلها المدهش معهم، أما الفنانة شمس، فقد بعثت موجات من الوهج شوالتصاعد، وكان أداؤها التلقائي الجميل كاشفا عن موهبة خصبة متجددة. حضور لافت شهدت المسرحية حضوراً لافتاً لأربعة من النجوم الشباب الذين حققوا تواصلا جماهيريا عريضا عبر التليفزيون والسينما، وهم أشرف مصيلحي، أحمد جلال عبدالقوي، عمرو عبدالعزيز، ومحمد نصر، وقد جاءت تجربتهم مع المسرح لتكشف عن أبعاد الطاقات المتوهجة والبريق الجامح والانطلاقات الواعدة، فكل منهم يمتلك خصوصية فريدة وبصمات مغايرة، وإشعاع متدفق. يذكر أن دعاء طعيمة، قد لعبت أحد أجمل أدوارها المسرحية، واشتبكت بحرارة مع الجمهور،وبعثت ثورة من الجمال الفني الأخاذ، وفي نفس السياق تميز الفنان محمود حافظ بأدائه المبشر بميلاد نجم قادم، أما الجميلات هند جاد، ياسمين سمير، وسمر جابر فقد لعبن أدوارهن بمصداقية والتزام وسوف تأتي التجارب القادمة بمزيد من الخبرة. آثارالكوميديان الجميل عبدالمنعم رياض: «حالة من التساؤلات حول أدائه اللافت وايقاعه المتميز، وكذلك كان الفنان الواعد أحمد راسم، والشاب القادم عبدالرحمن قابيل. كان الديكور للفنان محمود سامي، والألحان لأحمد حمدي رءوف، والاستعراضات لندي بهجت.