أليس غريباً أن يشعر من كان في مثل سني بدماء الشباب تجري في عروقه؟، ولكن لم الغرابة؟ إن الشيخوخة لا تصيب سوي المقعدين، أما أنا فلم أقعد يوما، لقد قضيت عمري كله أعمل وأنتج وأفكر وأكتب، ولعل الشيخوخة بحثت عني من وقت لآخر ولكنها لم تجدني، لأنني لم أكن هناك أبداً في انتظار مجيئها. .. هذه كلمات برنارد شو عندما بلغ التسعين من العمر، والتي تنطبق حرفياً علي العالم الجيولوجي العظيم رشدي سعيد الذي يحتفل اليوم الأربعاء 12 مايو ببلوغها وهو في كامل لياقته الذهنية والروحية، رشدي سعيد الذي يعرف تضاريس مصر ( الصدفة الجيولوجية العظيمة)، يحتفل بعيداً عنها، في أمريكا حيث منفاه الاختياري الذي يعيش فيه منذ خروجه من حبسة سبتمبر 1981، بعد أن ضاقت الخريطة ومُنحت الجبال لبتوع السيراميك، والمياه لملاعب الجولف وسكان الساحل الشمالي الأغنياء، وبعد أن تم تعليب الأحلام، يستحق الرجل الكبير اليوم احتفالاً يليق به وبسيرته الطيبة،ونقول له: شكراً علي ما قمت به، كأستاذ جامعي في جامعة القاهرة من 1950 إلي 1968، كأول مصري يحصل علي الدكتوراه من جامعة هارفارد، كمدير لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية من 68 إلي 1977، وعن دوره في الاكتشافات التعدينية التي مكنت مصر من التغلب علي ما فقدته بعد احتلال سيناء، كنائب في البرلمان ينحاز للمستقبل ولمصالح الفقراء، علينا أن نشكره لأنه قال منذ البداية إن توشكي مشروع فاشل ولم يصًِدقه كدابون الزفة، الذين فرطوا في 10% من مياه مصر من أجل عيون خمسة مستثمرين، وفي مشروع لاجدوي من ورائه،رشدي سعيد يعرف أن إسرائيل والبطالة من أهم أسباب التطرف، التطرف الذي بدأ - كما يقول - عندما تحالف إسماعيل صدقي مع اليمين الديني ليشرخ روح التسامح التي أرستها ثورة 1919،الرجل الذي يحذر منذ سنوات بعيدة من انفصال جنوب السودان الذي يصب في صالح إسرائيل المتعطشة لمياه النيل، والذي يعتبر أن مصر أخطأت عندما سمحت للبنك الدولي بأن يكون طرفاً في محادثات دول حوض النيل بدعوي تنميتها، لأن خبراء البنك يريدون تقسيم المياه بشكل جغرافي دون النظر إلي حاجة الدول الفعلية، رشدي سعيد يعرف تجاعيد التربة، وربط علم الجيولوجيا بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طفحت علي جلد مصر، شكراً للرجل الكبير علي كتابه «العمدة» عن النيل، علي مذكراته الرائعة «رحلة عمر ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات»، علي«الحقيقة والوهم في الواقع المصري المعاصر»، وعلي أبحاثه الكثيرة التي يعرف المختصون قدرها أكثر منا، وصول الرجل الكبير للتسعين شيء مفرح وضروري، وكنت أتمني أن تعيد دار الهلال إصدار كتبه بهذه المناسبة، أو تلتفت مكتبة الأسرة إلي كتبه المفيدة رفيعة المستوي، وكنت أتمني أن تحتفي الدولة إذا كان لها رأس بمعني رشدي سعيد، المصري الذي بذل عمره حارسا لبلاده، عارفاً لقدرها... خائفاً عليها.