تشهد الأيام الراهنة صراعاً طاحناً بين مختلف القوى السياسية فى الدولة ، خاصة بعدما بات الصراع على كرسي الرئيس محصوراً بين مرشح الجيش أحمد شفيق المحسوب بداهة على نظام مبارك وبين محمد مرسى مرشح جماعة الأخوان المسلمين . وإذا كان الخلاف بين القوى السياسية يتمثل فى رفضها لاستئثار جماعة الإخوان بكل مكونات العملية السياسية تخوفاً من تكرار تجربة الحزب الوطني، ومما لا يدع مجالاً لشفافية المحاسبة والعقاب، فضلاً عن اعتقاد القوى السياسية وبعض أطياف الشعب المصري بأن الإخوان إذا وصلوا للحكم لن يتركوه فالجماعة كمؤسسة تعمل كغيرها على تفريخ قيادات جديدة وبشكل مستمر، وتعتبر أن نجاحها فى الانتخابات هو نجاح للمشروع الإسلامي ؛ الأمر الذى يدفعها دائماً إلى الاستماتة للاحتفاظ بكرسى الرئيس، فتخليها عن الحكم يعنى سقوط المشروع الإسلامي لتحل محله دولة المعصية والانحلال ، وفى هذه اللحظة ربما تظهر جماعات تعلن الجهاد ، ويصبح حينها الصراع ليس صراعاً على الحكم بل صراعاً من أجل الدين. كما ترفض القوى السياسية فوز شفيق باعتباره أحد أنصار مبارك ويمثل النظام الذى قامت الثورة من أجل إسقاطه؛ وليس من العقل أن نعيد انتخاب نظاماً أسقطناه بأيدينا، فضلاً عن تخوف الثوار من رغبة شفيق فى الانتقام؛ فهم من اسقطوا نظامه وقابلوه بالنعال عندما رشح نفسه للرئاسة . ورغم منطقية هذه الافتراضات التي طرَحَتها القوى السياسية المختلفة، إلا أنها ليست الافتراضات الوحيدة .. فربما كان شفيق قد تعلم الدرس جيداً وكان الأقدر على حماية الثورة من أصحابها .. وربما حرص الأخوان المسلمين على محاكاة النموذج التركي وطرحوا بديلاً فى الحكم فى غاية الروعة لم تتوقعه القوى السياسية برمتها .. وفى كل الأحوال تظل هذه السيناريوهات مجرد افتراضات ربما تثبت خطأها فى الأيام القادمة .. ورغم كل ماسبق لم يطرح الشارع إلا معياراً واحداً لاختيار الرئيس، ليس الكفاءة وإنما الدين المتأصل فى ثقافة الشعب المصري كمعيار لرفض سلوك أو قبول أخر. فقد تعلمنا فى دراستنا للتاريخ أن المجتمعات كائنات تتطور كالأفراد.. فتنهض أحياناً وتتعثر فى أحايين كثيرة، وفى كل الأحوال كانت الثقافة هى مؤشر النهضة والتحضر، فمن خلالها نتكهن بالمرفأ الأخير لقطار النهضة، وأن المجتمعات عندما تتجاهل الدين ربنا تتقدم ولكنها تموت فجائياً ودون مقدمات وأن مآلها الاستعمار والتآكل.. وإذا كانت دولة رهبانية وقطيعة للعلم؛ تأخرت وتوقفت تروس التقدم فيها .. وتعلمنا أن الدول إذا تجاهلت العلم تخلفت حتى وأن طبقت الأديان نصاً فيها..ولكن عندما وافق العلم الدين فصار العلم منهاجاً والدين ثقافة حرة بات العمل والتقدم ابن شرعي بار لتزاوج الدين مع العلم و وأصبح التقدم سمة لهذه الشعوب، ولعل اليابان خير شاهد على تقدم الدولة التى جعلت للعمل أخلاق تدرس فى المناهج التعليمية، أخلاق مصدرها الدين ومحركها العلم .. وكذلك تعلمنا أن المجتمعات تقدمت عندما سَيَّدَت العلم وجعلته معياراً لاتخاذ القرار وموجهاً لكافة خططها وفى كل المجالات، وبذلك تقدمت أوربا بعد ثورتها الكَنَسِيَة بزعامة مارتن لوثر الذى دعا إلى إحلال سلطة العلم كبديل للسلطة الكنسية فى أوربا، ومنذ ذلك الوقت تخلصت أوربا من كافة أروقة التخلف وعاشت فى قصور النهضة والتقدم والهيمنة العالمية.. وعندها استشعر المواطن فى أوربا بقيمة ثورته وحصد نتائج تضحياته، استشعرها عندما ذهب إلى المدرسة ووجد فيها مناهجاً تعليمية ونهضوية متزنة، تلمس واقعه ونرسم بإتقان مستقبله ، استشعر بنتائج الثورة عندما ذهب إلى المستشفيات العامة ولم يجد ثمة فارقاً يذكر بينها وبين مستشفيات القطاع الخاص، استشعرها عندما تراجعت معدلات الإصابة بالأمراض المستوطنة ، وفى انخفاض حوادث الطرق وفى علاقة رجل الأمن برجل الشارع، استشعرها عندما وجد الدين سلوكاً يمارس وليس قانون يفرض.. استشعرها عندما وجد تحت قبة البرلمان رجالاً قد انتخبهم عن جدارة واستحقاق وليس لمعيار ديني فقط.. رجال يتكلمون بلسانه ويعملون على مصالحه؛ ومن ثم فلا حاجة للمواطن بالحديث فى السياسة العامة، فهناك شخوص قد انتخبهم لهذا الشأن يفكرون لصالحه ويسهرون على أمنه وراحته، وليس على المواطن سوى الالتزام بواجباته فقد كفل له الدستور حقوقه وأشرف البرلمان على إنفاذها وحمايتها، وأصبحت المجتمعات عبارة عن أروقة وقباب لممارسة السياسة وشعوب تعمل وماكينات تنتج ونهضة تتحقق على الأرض يلمسها الداني ويشهدها القاصي ،. والآن أتساءل أين نحن من هذه الثورات وما إرهاصات نجاح ثورتنا، وهل تقييمنا للثورة كان عن موضوعية أم خوف من الهزيمة وشماتة الفلول؟ فقد لاحظت بشوارعنا أن الناس متعطشون للدين أكثر من تعطشهم للتنمية والتقدم وكأن ثورتنا لم تكن ثورة ضد الفساد والعدل المغيب بل ثورة من أجل الدين. فلا ضير أن يكون الامتثال للشرع هدف؛ فالأديان هى روح المجتمع ومصدر استقامته، ولكن لماذا ارتفعت معدلات الجريمة بعد الثورة للدرجة التى تهدد مستقبلها برمته رغم موقف الدين منها؟ لقد ثورنا من اجل القضاء على الفساد وإعلاء قيمة العلم واستعادة كرامة الوطن ومكانته بين الشعوب .. فلماذا زج بالدين فى كل حوارتنا. ولماذا نضع العلم دائماً مقابل الدين؟ وإذا كان الإسلام فى كنهه عقيدة علم وعمل، فلماذا لا يكون العلم والدين فى قاطرة واحدة تجرنا نحو مستقبل أفضل؟ فمن المُلفِت للنظر أن معظم المعارك السياسة الآن ليست لخلافات حول سبل الاصطلاح وآليات النهضة وإنما معارك فكرية كان الدين معقلها..وكأن مشكلة نظام مبارك فقط كانت فى بعده عن الدين وليس فى فساده ولا فى الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذى عاشه المواطن المصرى فى كل مجالات الحياة ..فويل لأمة تنطلق من الدين إلى المذهب ومن الحكمة إلى المنطق ومن الحقل إلى الزقاق .. ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتشرب مما تعصر وتلبس مما لا تنسج .. ويل لأمة تحسب الزركشة فى غالبيتها كمالاً والقبح فيها جمالاً [email protected]