من أرض التمساح.. إلي غسيل الأموال ها هي الفترة الاستثنائية.. أو المرحلة الانتقالية قد شارفت علي النهاية. وها هي البلاد.. تهييء نفسها للدخول في تجربة جديدة.. أو في حالة جديدة أساسها الشرعية وحكم المؤسسات المنتخبة شعبيا وبشكل مباشر. والسؤال: هل نحن بالفعل مهيئون ومستعدون لخوض هذه التجربة.. الطبيعية والصعبة في نفس الوقت؟! وهل القوي الحاكمة. والمتحكمة علي استعداد أن تفسح المجال. وبشكل طبيعي لهذه النقلة النوعية في الحياة المصرية؟ وهل المرحلة الانتقالية التي أخذت البلاد من 25 يناير 2011 والمتواصلة حتي أول شهر يوليو القادم.. قد تركت علي الجسد المصري والعقل المصري.. بصمات وآثارا ايجابية.. أم العكس؟ ما نعيشه.. وما نشاهده.. وما نتابعه كل لحظة قد يشي ببعض الاشارات والعلامات والدلالات السلبية.. لكن ما يعادل هذه "الوشايات" ويوازنها هو هذا الاصرار الشعبي العام علي التمسك بالثورة. هو هذا الالتزام الصارم بالمحافظة علي الوطن.. علي الدولة بمؤسساتها وأجهزتها وكياناتها. هو هذا التصدي الواعي لمحاولات الاثارة. ودفع الناس والقوي في اتجاه العنف والتخريب باسم الثورة أو باسم الرفض.. أو باسم رد الفعل الغاضب.. وذلك علي الرغم من عمليات. التحريض. والترغيب والتهديد والغواية ورغم تقديم النماذج العملية عن طريق تفجير للمصانع وتخريب لمؤسسات وقطع للطرق وتهريب منظم للأسلحة وبمختلف انواعها وعن طريق اختطاف الرهائن وتهديد الأمن وغيرها وغيرها. هذا الموقف النبيل والحازم من جانب المصريين.. من جانب جماهير المصريين.. ورغم كل الاستفزازات ورغم كل الانتهاكات.. تؤكد وبكل وضوح وقوة.. ان من قاموا بالثورة ومن ساندوا الثورة.. وهم غالبية أهل مصر مازالوا مؤمنين بها.. مازالوا متمسكين بها.. ومازالوا عازمين علي المضي بها حتي تتحقق كل الأهداف التي انطلقت الثورة بسببها. قد يخرج البعض علي هذا التصور المتفائل ويقول: ان ما يجري علي الساحة الآن. من صراع سياسي ومن منافسات شرسة.. لا يمكن ان ينبيء بالخير.. لا يمكن ان تطمئن النفوس ويبشر بأن ما تحمله لنا الأيام القادمة.. مخالف ومغاير لما كنا عليه ولما نحن فيه. فلغة الحوار المستخدمة حادة والتعالي واصل للقمة والتهديد بالعقاب وعظائم الأمور بلا حدود وتشويه الخصم وتلويث السمعة بالحق أو الباطل لا تراعي حرمة ولا يمنعها أو يوقفها خلق أو آداب أو دين. وهذه الظاهرة القبيحة قد تفشت وتوسعت وشاعت بالفعل.. وهذا أمر مخيف ويدعو إلي ضرورة التوقف أمامه وتأمله والبحث والتنقيب عن أسبابه ودوافعه ومبررات انتشاره. لكن هذه الوقفة التي تفرضها علينا هذه الظاهرة لابد وان تكون وقفة مطولة وبنظرة معمقة.. وقفة ونظرة تتناول اصحاب هذا الاسلوب في التعامل في المواجهة في الرد علي الخصوم أعني خصومهم إذا كانوا اصحاب قضية. ذلك ان دراسة شخصية هذا الذي يستخدم أسلوب التهديد والوعيد.. أسلوب فتح الملفات الشخصية التي لا تتوفر إلا عند اجهزة الدولة الأمنية والسرية.. هذا الذي ينذر ويعلن انه لن يتردد لحظة في أن ينزل العقاب والعقاب الفتاك بخصمه إذا لم يتوقف عن منافسته أو معايرته أو عن كشف وفضح خطاياه وجرائمه. مثل هذه الشخصيات التي تتباري وتتخاصم وتتفاضح - من فضيحة - بنشر كل الممنوعات وفضح كل الموبقات.. هذا النوع من البشر لابد من ان نتوقف عنده كثيرا.. ونقلب في دخائله ولابد أن ندرك ومن البداية أنه ليس مهما. ان يكون وزيرا أو خفيرا.. أو أعلي من هذا وذاك.. فالمسألة في بدايتها ونهايتها: * تربية * ثقافة * بيئة * طبيعة عمل * نوعية مهام ومسئوليات * أهداف ونوايا هذه كلها وغيرها.. تصنع السلوك وتوجهه.. هذه كلها وغيرها.. تصلح القلب والروح أو تفسدهما.. هذه وغيرها.. تصنع طريقة التفكير وتديرها. هذه.. تحدد في مجموعها "بوصلة الحركة" وفي اتجاه الأهداف التي بلورتها "توليفة" العقل والقلب معا.. فتأخذك إلي حيث اختارت.. وإلي حيث ما أجمعا عليه معا شرا كان أو خيرا.. وبالتالي.. ليس مهما هنا أن يكون صاحبنا رئيسا. أو وزيرا أو أميرا.. أو أن يكون غنيا. ليس لثرواته حدود.. المهم ان تركيبته الخلقية والتربوية والدينية والأخلاقية والثقافية والمهنية - بالتأكيد - لا يمكن أن ينتج عنها إلا هذا مثل هذا النموذج المشوه. من هنا يمكن القول.. وبكل الثقة واليقين.. ان من أبرز ايجابيات "المرحلة الانتقالية" التي نوشك علي الانتهاء منها قريبا - إن شاء الله - هي "تعرية" هذا النوع من البشر.. النوع من "النجوم".. نجوم السياسة والحكم ونجوم المال والأعمال فقد ظهروا علي حقيقتهم.. كشفوا أنفسهم بأنفسهم والملفت للنظر والفكر.. ان ما كشفوه بأنفسهم وهم يحاولون الدفاع ورد التهم. أخطر وأعظم بكثير مما وجهه إليه خصومهم. لن أدخل في تفاصيل ووقائع من هذا النوع "المشين" الذي تناولته حملات الهجوم والهجوم المضاد الأخيرة بين المتنافسين.. لكن ربما كان من الجدير بالقول بعض الأمور المتعلقة بالحكم.. متعلقة بالحكم وأخلاقياته والحكم وتبعاته. *** لقد سبق وأثرت في مقالات وأحاديث سابقة.. "فكرة الفرعون" بل ومفهوم. أو فكرة "الدكتاتور".. وكان رأيي ومازال ان "الفرعون" حالة.. حالة ذهنية وجدانية. تندمج. فيها وتذوب.. المهنة أو الوظيفة مع المهمة أو الرسالة.. فالفرعون.. كمهنة أو وظيفة.. هو بمثابة ملك يدير شئون البلاد والعباد. بينما "الفرعون".. كرسالة أو مهمة هو تكليف وجداني روحاني. يدير في الأساس والأعماق نفوس البشر وقلوبهم.. لذلك امتزجت مهام الفرعون وتكاليفه بالجانبين. المادي والمعنوي.. ومن هنا ظهرت الترجمة الصحيحة لكلمة الفرعون بأنها: "الملك الإله".. فهو مالك الأرض.. أرض الوطن.. ومالك نفوس وعقول أبناء هذا الوطن. والفرعون بهذه الصفات هو المالك لكل شيء.. ولا يمكن لمالك.. أن يسرق نفسه.. هو مالك الأرض والناس.. ومن يسرق.. لا يمكن أن يكون "فرعونا". ومن يسمح لأحد أن يسرق البلاد.. ويحمل سرقاته إلي خارج البلاد.. لا يصح أن يطلق عليه صفة الفرعون.. بل ولا حتي صفة الملك أو الدكتاتور. سواء كان هو السارق أو أفراد أسرته وحاشيته.. هذا النوع مسماه الحقيقي "لص".. ولهذا فالهوجة الجارية في بلادنا هذه الأيام تتحدث عن قيام علاء وجمال مبارك برفع دعوي علي الحكومة السويسرية يطلبان فيها عدم السماح بادخال مصر طرفا في قضية "غسيل الأموال" المتهم فيها "الابنان" والمنظورة أمام المحاكم السويسرية.. ورفضت سويسرا الدعوي. والسبب في رفع الدعوي.. هو قطع الطريق علي مصر بحيث لا تستطيع أن تطلع علي الملفات المتعلقة بالسرقات وغسيل الأموال.. فالقانون السويسري يقضي بحق الشريك في الدعوي بالاطلاع علي كل الملفات.. بينما يغلق الملفات جميعا في وجه من ليس طرفا. ولا شك ان هذه القضية وغيرها جزء يسير من ملفات أموال وتحويلات وحسابات بغير حصر وكل يوم يتكشف الكثير والكثير لكن أحدا لا "يخجل" وأحدا لا يرتدع والملاحظ.. أنه بينما امتلأت عناوين الصحف ونشرات الأنباء قضية غسيل الأموال في سويسرا وقرار الحكومة السويسرية بادخال مصر طرفا في القضية - ما يعني وجود الكثير مما لم يكشف عنه - بينما القضية مثارة تكشف أعمال مجلس الشعب المصري عن قضية "شبيهة". تتعلق بالشابين ابني الرئيس السابق علاء وجمال.. قضية شراء قطعة أرض علي بحيرة التمساح مساحتها 40 ألف متر وبواقع 75 قرشا للمتر المربع. هذه الواقعة البسيطة تكشف إلي أي مدي كان الاصرار علي الاستحواذ علي كل ما يمكن الوصول إليه وبأبخس الأسعار وهذه الحالة تؤكد وتثبت صدق الوصف الذي ذهبت إليه وزارة الداخلية السوسرية وهي تعلق علي ممارسات الرئيس السابق وعائلته وفقا لما بين يديها من وقائع ودلائل. يقول بيان الداخلية السوسرية ان ممارسات الرئيس المصري السابق ورجاله. مطابقة تماما لأعمال عصابات الجريمة المنظمة التي تهدف إلي نهب الأموال العامة بشكل غير مشروع وعلي نطاق واسع. الغريب في الأمر.. ان واقعة أو جريمة غسيل الأموال في سويسرا تعتبر جريمة صغيرة مقارنة بالمليارات التي تتحدث عنها الأنباء والتسريبات.. وتكشف عنها التحريات من وقت لآخر.. والتي كان من بينها الكشف عن أموال مهربة تصل إلي أكثر من 5.2 مليار دولار.. منذ أشهر قليلة. كذلك فإن حكاية أرض بحيرة التمساح ال 40 ألف متر مربع والمشتراة ب 75 قرشا للمتر.. لا تساوي شيئا. مقارنة بعشرات الملايين من الأراضي المستولي عليها بالمتر أو الفدان بيعا أو شراء أو وضع يد أو غير ذلك بالمقارنة.. لا تمثل أرض "التمساح" كثيرا.. لكنها تكشف طبيعة التماسيح الذين لا يرغبون في ترك شيء إلا ووضعوا أيديهم عليه.. ثم باعوه بأعلي الأثمان.. ثم حولوا ثمن البيع لحساباتهم في الخارج. وهنا نعود للنقطة التي سبق التوقف عندها وهي الفرق بين اللص وبين الفرعون. بين الحاكم الذي جاء وسرق وبين الفرعون الذي جاء ملكا.. يمثل عند الرعية المثل الأعلي في الحكم وفي القدوة.. هو الملك الإله. هو الذي يضيف إلي ملكه ومملكته بالفتوحات. التي تضم الأرض الجديدة.. وتؤمن المياه البعيدة.. وتحمل إلي أرضه الأصلية وإلي شعبه الخير والثروات. الفرعون مالك. وملك لا يسرق ملكه ولا يسرق نفسه. ولا يسرق شعبه. هو يضيف.. ولا ينتقص من خير البلاد.. وهذا فارق ضخم وكبير. الفرعون.. في البداية والنهاية. صاحب مشروع. قد يستبد الفرعون.. قد يظلم الفرعون.. قد يعنف ويقسو.. لكنه أبدا لا يخون بلده.. لا يبدد ثروات شعبه.. هو أبدا.. لا يبيع بلاده للغير.. ولا يبحث عن مجد عند من لا يملكون.. الفرعون يصنع الامبراطوريات.. ولا يهدمها أو يبيعها.. ثم نعود للبداية ونقول.. ان هذه الفوضي التي نعيشها.. والتي نستعد لمشاهدة نهاياتها.. رغم كل شيء قد ساهمت وبقوة. في كشف الكثير والكثير.. هي كل يوم تثبت أن المخبأ من أسرار وأموال وجرائم وفضائح مازال أضعاف أضعاف ما تم الكشف عنه. وأن الأيام القادمة.. والعودة إلي الشرعية ووضع نهاية لحالة الاستثناء سوف تساهم وبقوة في الكشف عن كل الرذائل والجرائم.. أبطالا وأفعالا.. وان الحقوق التي تم نهبها ستعود. وإذا كنا نأمل في أن تتوقف أعمال البلطجة السياسية.. وبسرعة.. فهي لابد منتهية.. وهذه إحدي فضائل الديمقراطية.. وان حدثت بعض التجاوزات.. فالمهم أن يظهر الحق.. وتتبدد الأكاذيب.. ويزول الوهم والخداع الذي يحيط بالبعض كبارا أو صغارا وظني ان هذا هو واقع اليوم.. فكل لحظة يسقط. مدع.. وينكشف مزيف.. وتمسك التهم بتلابيب سارق. نقلا عن جريدة الجمهورية .