هل يمكن أن يلتزم المجلس العسكرى بوعوده، بأن يكون حاميا لمدنية الدولة، وأن يظل نظام الحكم فى مصر مدنيا، بينما يمنع الأغلبية البرلمانية سلطة صياغة الدستور؟، تبدو الإجابة عن السؤال الحرج شديدة الصعوبة، فالمجلس وعد بما لا يملك، على الأقل لأنه تذكر «مدنية الدولة»، بعدما أعلن وتعهد بخارطة طريق على طريقته، توافق عليها الإسلاميون، الذين منحتهم المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية، أملا فى الحصول على أغلبية برلمانية، تجعل صياغة الدستور رهنا لإرادتها.
طوال الأشهر التالية لإصدار الإعلان الدستورى فى مارس الماضي، كان المجلس العسكرى يلهث خلف إصلاح ما بدا أنه «خلل» فادح فى خارطته، حتى بفرض حسن النية، فقد اكتشف المجلس فجأة أن ما جاء فى الإعلان الدستوري، ورفضته القوى المدنية، بينما أيده هو والقوى الإسلامية، ليس اكثر من فخ، دفعه إلى الدخول فى طريق مسدود هو «وثيقة المبادئ الدستورية»، المعروفة باسم «وثيقة السلمي»، والتى ماتت نهائيا مع مذبحة «محمد محمود»، التى راح ضحيتها ما يزيد على 45 شهيدا، ودفنت معها حكومة د.عصام شرف ونائبه السلمي.
ومع وفاة «وثيقة السلمي» نهائيا، والتى جاءت مع نتائج المرحلة الأولى للانتخابات، التى منحت التيارات الإسلامية مجتمعة أغلبية المقاعد، عاد السؤال ليطرح نفسه مجددا: هل يمكن أن يحافظ المجلس العسكرى على مدنية الدولة، فى ظل أغلبية برلمانية للإسلاميين؟.
وما بين متفائل ومتشائم، اختلفت آراء القوى السياسية، خاصة المؤمنة بالدولة المدنية منها، مع توقعها بأن يستمر الإسلاميون فى حصد المزيد من المقاعد، فى المرحلتين القادمتين للانتخابات، وتباينت الآراء السياسية والحقوقية حول مدى قدرة «العسكري» على حماية دولة «مدنية» يصل عمرها إلى عهد محمد علي.
من جانبه، يرى عبد الغفار شكر القيادى فى حزب التحالف الشعبى الاشتراكي، أن الدستور هو الضامن للدولة المدنية، لذلك يجب أن تخضع صياغته لمعايير تتوافق مع قيم العصر الحديث، كما أنه يجب أن يصاغ بالتوافق بين كافة قوى وأطراف المجتمع المصري، بغض النظر عن نسبة التمثيل فى البرلمان، وهو ما يتناقض مع الطريق الذى حدده الإعلان الدستوري، بأن تتكون اللجنة التأسيسية لوضع الدستور من أعضاء مجلسى الشعب والشورى غير المعينين.
وحول إمكانية انفراد الإخوان بوضع الدستور، بما لهم من أغلبية محتملة فى البرلمان، حسبما توضح المرحلة الأولى فى الانتخابات، يقول شكر إن «الإخوان أصدروا وثيقة تؤكد احترامهم لمدنية الدولة، وحتى فى حال تشبثهم بأنهم الأكثرية البرلمانية، فى ظل الصعود الملحوظ لهم فى المرحلة الأولى، فإن الفيصل هنا هو نشاط باقى القوى السياسية»، ويستبعد شكر أن يتشبث الإخوان بوضع الدستور، موضحا أنه حتى إذا أصروا على ذلك، فإن الفيصل وقتها سيكون هو الشعب المصرى وليس المجلس العسكري، الذى يجب ألا يتدخل فى عملية وضع الدستور من الأساس.
ويتفق ناصر عبد الحميد عضو المكتب التنفيذى لائتلاف شباب الثورة، مع رؤية شكر التى تعتبر الدستور هو الضمان الوحيد لدولة مدنية، مضيفا أنه يجب وضع ضمانات لعدم سيطرة فصيل سياسى معين على عملية صياغة الدستور، لذلك لابد أن يعلن المجلس العسكرى معايير اختيار اللجنة التأسيسية للدستور، قبل الانتهاء من الانتخابات البرلمانية، بحيث يتم وضع ضمانات كافية لعدم سيطرة أى فصيل عليها، حتى لو كان هو الأكثرية.
ويقول أحمد بهاء الدين شعبان القيادى بالحزب الاشتراكى المصري، إن المجلس العسكرى يتحمل وحده المسئولية المباشرة فى الأزمة التى تمر بها البلاد حاليا، مضيفا أنه «أدخلنا منذ البداية فى متاهة التعديلات الدستورية، ورفض البدء فى وضع دستور جديد يحدد مسار الدولة، ويضع قواعد النظام السياسى لمصر، بعد ثورة 25 يناير».
ويوضح شعبان أن السياسة التى انتهجها المجلس العسكرى تسببت فى تراكم الأخطاء، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، حتى بدأت ملامح الصراع المرتقب بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري، فى الظهور مبكرا، حول تشكيل الوزارة الجديدة بعد الانتخابات، فالمجلس العسكرى يملك بموجب الإعلان الدستورى حق تشكيلها، فى حين ترى الجماعة أنها الأحق بحكم فوزها بأغلبية مقاعد البرلمان، قياسا على المرحلة الأولى للانتخابات، ويضيف شعبان «أن المجلس العسكرى بدأ بداية خاطئة، بما قادنا إلى لحظة تهديد الدولة المدنية، من خلال ما ينشر من تصريحات للقوى الدينة المتشددة، وتكفيرها الدائم للمخالفين لها فى الرأى».
ويوضح شعبان «لا نريد اتخاذ إجراءات استثنائية حيال هذه القوى وأحزابها، فكل ما نطلبه هو تطبيق القانون، الذى يقضى بعدم تأسيس أحزاب على أسس دينية، خاصة أن هذه الأحزاب تجاهر بعدم تطبيق الديمقراطية، بل تصفها بالكفر، وتجاهل بسعيها لإعلان الدولة الدينية، ووصل الأمر إلى حد استخدامها دور العبادة فى تحقيق مصالح شخصية»، مشيرا إلى أنه فى حال تطبيق القانون، يجب أن يتم حل هذه الأحزاب، لأنها تهدد مدنية الدولة، وتسعى للانقلاب على أسس الدولة.
وتشير مارجريت عازر مساعد رئيس حزب الوفد، إلى أن الخطوة الأولى التى يجب على المجلس العسكرى أن يتخذها للحفاظ على الدولة المدنية، هى تأكيده على ترك السلطة فى موعد محدد غير قابل للتأجيل، مضيفة أن المجلس عليه المساهمة فى إرساء قواعد الدولة المدنية، من خلال التشاور مع جميع طوائف المجتمع، وتشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور من جميع طوائف المجتمع، «لأن هذا الإجراء سيؤدى إلى إعادة الثقة بين المجلس العسكرى والشعب».
أما أمين إسكندر القيادى بحزب الكرامة، والمرشح على قوائم التحالف الديمقراطي، فى الدائرة الأولى فى القاهرة، فيقول «المطلوب من المجلس العسكرى للحفاظ على الدولة المدنية، أن يفتح حوارا مجتمعيا مع كل فئات المجتمع، بحيث لا يقتصر على القوى السياسية والأحزاب فقط، وأن يقدم وثيقة مثل التى قدمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ليتم التوافق عليها بين القوى الثورية والمجلس»، ويطالب إسكندر بأن توضح الوثيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن تحتوى على ثوابت يجب النص عليها فى الدستور، منها العدل الاجتماعى وهوية مصر، مضيفا أن الحوار يجب أن يتم بين كل مؤسسات الدولة وفئات المجتمع والنقابات، من خلال اختيار ممثلين عن كل مؤسسة، لإبداء الرأى فى الحفاظ على الدولة المدنية.
ويقترح إسكندر أن تكون الوثيقة ملزمة لمن يقومون بوضع الدستور، وأن يراعوا تلك الثوابت التى اتفق عليها المجتمع بأكمله، ومن هذه الثواب الدولة المدنية، وتحديد صلاحيات الرئيس والمجلس العسكري، وأن يكون النظام برلمانيًا رئاسى مختلطًا.
ويطالب محمد أبو العلا نائب رئيس الحزب الناصري، بتدخل قوى للمجلس العسكرى فى تشكيل اللجنة التأسيسية، مطالبا بألا يترك الأمر لمجلس الشعب وحده، لأن الدستور لابد أن يمثل كل طوائف الشعب، وأن يتم اختيار ممثلين عن كل هذه الطوائف، مشيرا إلى أن دور المجلس العسكرى سوف ينتهى بالحفاظ على الدولة المدنية، ومنعها من أن تكون دينية، لأن هناك إسلامًا سلفياً وإسلامًا إخوانياً، و«لو أن هناك اتفاقًا بين الاثنين، لارتضينا بالواقع، ولكن توجد خلافات بين الطرفين حول تطبيق الإسلام فى الدولة، ومدى تطبيق الحدود، وغيرها من الأمور المختلف عليها».
يؤكد بهى الدين حسن رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ضرورة أن يتوقف المجلس العسكرى عن سياساته وممارساته التى ولدت منذ 12 فبراير الماضي، عندما تولى إدارة شئون البلاد، من أجل حماية الدولة المدنية، مشيرا إلى أن مصر بدأت فى حصاد نتاج السياسات الخاطئة للمجلس، شوكا، من خلال وضع سياسى وأمنى وانتخابى غير مرضى على الإطلاق، فضلا على تصرفات المجلس فى شارع محمد محمود، التى شابها الكثير من الخروج عن معايير الإدارة الصحيحة، لجنى ثمار ثورة قامت لكسر جدار القمع والخوف.
ولفت حسن إلى تجاهل المجلس لأصوات وآراء ومواقف شباب الثورة والقوى السياسية الليبرالية، ومنظمات المجتمع المدني، وأصبح صوت التيارات الدينية والمصالح الضيقة، هو سيد الموقف، مضيفا «لم يتجاهل المجلس العسكرى هذه الأطراف فحسب، ولكنه قام بتقييد حريتها، وفرض المحاكمات العسكرية، وتوجيه الاتهامات والتشهير بها، لتحجيم دورها فى المجتمع المصرى».
ومن جانبه، أكد حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وعضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، ضرورة إصدار قانون بشأن اللجنة الدستورية، لتحديد معايير اختيارها، لافتا إلى أن النص الدستورى لم يتضمن هذه المعايير، ويجب إلزام المجلس المنتخب بها، لكى يضمن تمثيل الشعب المصرى تمثيلا حقيقيا، مع التمسك بضمانات الدولة المدنية فى نصوص الدستور، والحصول على توافق من كل القوى السياسية، موضحا أن المجلس العسكرى عليه أن يضمن للشعب إجراء تحقيقات موسعة فى الانتهاكات والتزوير الذى تمت فى العملية الانتخابية، مع ضمان انتخابات نزيهة فى المرحلتين القادمتين.
ولفت إلى أن سياسة المجلس توحى بأنه لم يحافظ على مدنية الدولة، خاصة بعد التجاوزات التى ظهرت من جانب الإخوان والسلفيين فى المرحلة الأولى للانتخابات، وهو ما يشير إلى تحويل الدولة فى مصر إلى دولة دينية على أيدى العسكر، والذى كشف دوره. التزييف الذى تم على نطاق واسع، وهو ما يعنى أن الدولة المدنية المصرية فى خطر، خاصة مع تصلب المجلس لآراء التيارات الدينية، واتخاذه مواقف ضد كل مطالب الدولة المدنية.
واستنكر سعدة موقف المجلس العسكري، الذى بات سلبيا ومتخاذلا، وتابعا للتيارات الدينية، حسب وصفه، متسائلا: كيف يمكن أن تتم إعادة بيع لحوم مشروع الخدمة الوطنية للمواطنين، التابع للقوات المسلحة، فى شوادر الإخوان والسلفيين؟ ولماذا لا يتم توزيع اسطوانات البوتاجاز المدعومة من الدولة إلا بموافقتهم؟
أما د. جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، فيقول إن السبيل الوحيد للحفاظ على مدنية الدولة، هو إصدار إعلان دستورى صريح، يعلن فيه المجلس العسكرى التزامه بمدنية الدولة، ويحدد فيه بعض الأساسيات مثل احترام المواطنة، والمساواة بين الجميع، وتبادل السلطة، وحق الاختلاف بين المواطنين، وتعددية الأحزاب، واحترام كل العقائد والديانات، على أن تكون على رأسها الديانة الإسلامية، بحكم أن معظم المصريين ينتمون له، مع ضرورة احترام الدستور وإعلاء دولة القانون، مضيفا أن المشير حسين طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ونائبه الفريق سامى عنان، أعلنا من قبل أن «الدولة المدنية» هى قضية أمن وطني، لا يمكن المساس بها.
ومن جهته، يرى د.عمر هاشم ربيع، مدير وحدة التحول الديمقراطى بمركز الأهرام للدارسات الاستراتيجية، أن المطلوب من المجلس العسكرى لحماية الدولة المدنية، هو إيجاد طريقة للتوافق بينه وبين الجماعات الدينية، على أن يطرح كل طرف منهما سيناريو وفاق، للوصول إلى أرضيات مشتركة، وعن دور التيارات الليبرالية، أشار ربيع إلى أنها ضعيفة، بالشكل الذى يقلل من دورها فى إرساء قواعد الدولة المدنية، وهو ما يجعل التوافق والمفاوضات مع الجماعات الدينية، بحكم امتلاكها الشارع، بينما يمتلك المجلس العسكرى القوى العسكرية الباطشة أحمد عبد الجليل - فاطمة الزهراء محمد - مصطفي يسري - شيماء جلال - شيماء صالح