كانت جماعة الإخوان المسلمين قاب قوسين أو أدنى من قطف ثمار ما اعتقدت أنه حقها الذى حرمت منه طويلا، اطمأنت الجماعة التى تحولت من محظورة إلى محظوظة، إلى أنها ستحقق الأغلبية المطلقة فى الانتخابات البرلمانية، وهى الأغلبية التى تمكنها من تحقيق كل ما تريد، وتفرض إرادتها على من تشاء. لكن فجأة نزل الشباب التحرير ليؤرقوا مضاجع قيادات الجماعة، ويجعلوا من حلمهم كابوسًا، فرغم إصرار المجلس العسكرى على إجراء الانتخابات البرلمانية فى موعدها - 28 نوفمبر، إلا أنه لا يوجد شيء مضمون الآن، وما يعلن اليوم يمكن التراجع عنه غدا وبمنتهى السهولة.
وحتى لو أجريت الانتخابات فإن الجماعة التى كانت تعانى من فرط القوة فقدت كثيرا من شعبيتها.. فقد بدا الآن أنها لم تدع إلى مليونية 18 نوفمبر للإحتجاج على وثيقة السلمى لأنها ضد مستقبل مصر، ولكن لأن الوثيقة كانت ضد مصلحة الجماعة مباشرة.. والدليل أنها بعد أن استعرضت عضلاتها فى الميدان وأرسلت برسائلها كاملة لمن تريد، انسحبت وأخذت نفسها وعادت مرة أخرى إلى ثكناتها، تاركة من قرروا أن يعتصموا فى الميدان ظهورهم عارية تماما.
جلست جماعة الإخوان المسلمين فى مقاعد المتفرجين وهى تشاهد الاعتداءات الوحشية على المتظاهرين.. سقط الشهداء أمامها ولم تفعل إلا بعض التصريحات المتهافتة التى تدين ما جرى وكأنها تقمصت أدوار الحكام العرب العاجزين الذين يكتفون بالشجب والإدانة والتنديد مع كل اعتداء على الفلسطينيين.
وعندما وضع الميدان جماعة الإخوان فى اختبار حقيقى ودعا إلى مليونية من أجل الوقوف بقوة أمام المعتدين، ارتدت الجماعة ثوب العار، تخاذلت وجبنت وتركت المتظاهرين وحدهم فى الميدان دون سند، بل إنها أصرت على أن تخسر إلى النهاية، عندما وجهت اتهاماتها إلى سباب التحرير وجردتهم من وطنيتهم.. وكأن الوطنية أصبحت حكرا على الإخوان وحدهم.
بروتوكولات المرشد وتبرير العريان
فى رسالته العامة التى وجهها المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع لأفراد جماعته وصف نزول أبناء الإخوان إلى ميدان التحرير بالمفسدة الكبرى واستدراج لتعقيد المشكلة وليس حلها.
تقمص بديع دور المجلس العسكرى عندما اتهم ثوار التحرير بأنهم عملاء، قال فى رسالته: «مما ظهر من معلومات أكيدة وجدنا تكرار السيناريوهات ووجدنا أن قوى داخلية وخارجية لا تريد لمصر أمنا ولا استقرارا ولا نهضة تستغل مشاعر الشعب المصرى الطيبة لإثارة الفتن والصراعات.. والأمثلة كثيرة».
وصل بديع إلى ذروة الفُجر السياسى والإنسانى عندما كذب بشأن الثوار، لقد قال نصا: «وصلتنا العديد من الرسائل والطلبات بإلحاح أن ينزل الإخوان للميدان لإنقاذ هؤلاء الجرحى والمصابين والدفاع عنهم وهذه مشاعر عاطفية نبيلة، ولكننا أمرنا أن نقدم دفع المفاسد على جلب المنفعة وإعمال مقتضيات العقل والحكمة لدفع مفسدة أكبر مترتبة على نزول الإخوان بكثافة للميدان».
لم يطلب الميدان حماية من الإخوان، طلب منهم أن يشاركوا مثلهم مثل أى قوة سياسية أخري، لكن المرشد يصر على أن ينسب لنفسه ولجماعته ما لا يقوم به، وفى النهاية يسقط تماما عندما يعلن أنه أمر بالتخلى عن الميدان لأن فى النزول مفسدة.
بعد ما قاله المرشد فى رسالته العامة والتى تشبه البروتوكول الذى التزم به الإخوان - إلا من انشقوا من الشباب عن صف الجماعة المتخاذل- كان طبيعيا أن يخرج عصام العريان الذى يقوم حاليا بدور وزير الإعلام الجماعة على طريقة صفوت الشريف، ليبرر لماذا تخاذل الإخوان، بأنهم لو نزلوا إلى الميدان فإنهم سيوسعون دائرة الصدام.
كان يمكن أن يصمت عصام العريان لأن الصمت هنا أولي.. بدلا من الأكاذيب التى كانت ترددها الجماعة أيام حسنى مبارك وكنا نصدقها.. كان الإخوان يقولون إنهم لا ينظمون مظاهرات لأن الشوارع وقتها ستتحول إلى حمامات دم.. لكن الآن الشعب يواجه وقد نزل الإخوان أكثر من مرة دون أن يعترض عليهم أحد.. لكن ماذا يفعل العريان وهو لابد أن يتكلم.. حتى لو كان كلامه بالباطل؟
طرد البلتاجى ورمى الجماعة بالزبالة
لا يمكن أن أشكك فى نوايا الدكتور محمد البلتاجى القيادى بحزب الحرية والعدالة، فالرجل منذ أيام الثورة الأولى كان موجودا ومتواجدا خطيبا مفوها يعبر عما يريده الثوار.. لكنه عندما نزل إلى التحرير هذه المرة وبعد أن أعلنت جماعته أنها لن تشارك فى مليونية 22 نوفمبر كان هدفه أن يهدئ الثوار، بحجة أن اشتباكهم مع الداخلية يمكن أن يضاعف الأزمة، وأن يزيد عدد الضحايا.. وهى لغة متهافتة لم يعرفها أحد عن البلتاجى من قبل، لكن ماذا يفعل وجماعته جردته من أى بطولة يمكن أن يمارسها فى الميدان، وهو ما جعل شباب التحرير لا يرحب بالدكتور البلتاجى بل قاموا بمنعه من دخول الميدان من الأساس.. بل سارعوا إلى إلقاء أكوام الزبالة عليه، فى دلالة لا تخفى على أحد بأن هذا ما تستحقه الجماعة وهو أن يتم إغراقها فى الزبالة بلا رحمة.
تعرية الجماعة لم تحدث فى ميدان التحرير فقط.. ولكنها حدثت لدى قطاعات عريضة جدا من الشعب المصري، الذى أصبح يعرف جيدا أن الجماعة لا تقوم بشيء إلا إذا كان فى مصلحتها هي.. ولتذهب مصلحة الشعب كله إلى الجحيم.. فهم لم يعارضوا المليونية التى دعا الشعب إليها من أجل وقف حمام الدم إلا لأنها يمكن أن تحرمهم من الانتخابات البرلمانية التى تقربهم من فرض سيطرتهم على الجميع.. أما ما يعانى منه الشعب فلا قيمة له فى ميزان الإخوان.
عفاريت الشاطر يطاردون الثوار
من بين أدوار خيرت الشاطر الكثيرة داخل سراديب الجماعة أنه يجند مجموعة كبيرة جدا من الشباب الذى يجيد التعامل مع الإنترنت، فيما يشبه الكتائب الإلكترونية، ويطلقهم على خصوم الجماعة ليشوهوا صورتهم وينسبوا لهم ما لم يفعلوه.
قبل أن يدخل الشاطر السجن على ذمة قضية كتائب الأزهر كان قد استعان ببعض الشباب ووفر لهم شقة فى عمارة دوحة ماسبيرو، وهى نفسها العمارة التى توجد فيها قناة الجزيرة، ومنها كانوا يشنون هجمات عنيفة جدا على خصوم الشاطر فى الجماعة.. كما أنهم استطاعوا أن يكسروا الحاجز بين المجتمع وشباب الإخوان. الآن حدث ما لم يكن يحسبه أحد، فكتائب خيرت الشاطر قامت خلال الأيام الماضية بتلفيق عدد كبير من القصص الوهمية التى لم يكن لها من هدف إلا تشويه صورة ثوار التحرير.. قصص تصورهم أنهم بلطجية وأنهم ممولون من الخارج.. وأن هناك من يحركهم، فى حالة من الاستعداء الشديد على المتواجدين فى التحرير.
كتائب الشاطر من المدونين وعبر صفحات الفيس بوك شنوا حملات مضادة على كل من انتقد موقف الجماعة من عدم المشاركة فى مليونية التحرير، وكأنهم يقومون بإرهاب كل من يختلف معهم، حتى لو كان هذا الاختلاف من أجل مصر.
الضوء الذى أحرق الجماعة
فى حوار قديم أدلى به مرشد الإخوان السابق المستشار مأمون الهضيبى إلى جريدة أمريكية، قال إن جماعة الإخوان لو أتيح لها ممارسة العمل السياسى فى العلن، فإنها ستنقسم إلى خمسة أحزاب على الأقل. لم يكن مرشد الجماعة يرجم بالغيب، ولكنه كان يعبر تعبيرا دقيقا عن طبيعة الجماعة التى أدمنت العمل السري، أو لنقل بدقة أكثر لا تجيد العمل إلا فى مناخ القهر والمطاردة.. إنها تدعى طوال الوقت أنها مقهورة، وأن السلطة تطاردها، وأنها لو حصلت على حرية العمل فإنها يمكن أن تعبر بمصر من أزماتها. الآن حصلت الجماعة على حريتها كاملة، أصبحت مقراتها تنتشر فى كل مكان فى مصر.. حصلت على حزب سياسى له صحيفة تصدر كل صباح.. لكن هذا الضوء الكثيف الذى حصلت عليه الجماعة لن يكون سببا فى انتشارها بقدر ما سيكون سببا فى انحسارها. لقد انشق شباب الإخوان عن الجماعة.. شقوا عصا الطاعة ونزلوا إلى التحرير كأفراد بعيدا عن كهنوت الجماعة الذى يحرمهم من أن يكونوا مواطنين لا أتباع لجماعة لا ترى سوى مصلحتها.. وليس بعيدا أن تتوافد الجماعات المنشقة عن الجماعة خلال الأيام الماضية.. بل ليس بعيدا أن يكتب موقف الجماعة من أبناء الشعب المصرى الذين قتلوا وسالت دماؤهم فى الشوارع أن تنتهى تماما، فقد كتبت شهادة وفاتها بيديها.. ومن يدرى فقد نمشى جميعا فى جنازة الجماعة التى تريد أن تحكمنا باسم الدين، رغم أنها ليست مشغولة إلا بالدنيا