صدر تقرير عن دورية «وورلد بوليتيكس ريفيو» الامريكية فى الأسبوع الماضى محاولا أن يجيب عن السؤال الذى يحير العالم كله: هل ظهور قوى تيار الإسلام السياسى على الساحة فى مصر، ودخولها إلى الملعب السياسى بعد الثورة بهذه الكثافة، أمر يمكن أن تقدر واشنطن عليه؟.. أم أن وصول تيارات الإسلام السياسى وعلى رأسها الإخوان إلى الحكم، يمكن أن يؤدى لخسائر لا تقدر أمريكا ولا غيرها عليها؟ كانت واشنطن تتعامل بطريقة مختلفة مع تيار الإسلام السياسى فى مصر قبل الثورة.. تعتبره أحيانا مخلب القط الذى يخوفها به نظام مبارك حتى يضمن استمراره بكل تجاوزاته فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.. وتنظر له أحيانا أخرى على أنه الخصم الذى تلاعب به مبارك أحيانا لو تجاوز حدود الأدب.. لكن، كان خيار واشنطن فى النهاية هو تهميش تيار الإسلام السياسى.. وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة فى الحد الأدنى لها، وكانت تعتبر أن ذلك هو الثمن الذى تدفعه فى مقابل بقاء نظام مبارك.. صديق الغرب، وحليف الولاياتالمتحدة، راسخا فى موقعه.
تخشى أمريكا أحيانا من تحكمات الإخوان.. من تشدد مواقفهم فى معاهدة السلام مع إسرائيل، أو السياحة، أو حقوق الأقباط المرأة.. وتتضاعف تلك المخاوف بالطبع مع التيار الدينى الأكثر تشددا وهو التيار السلفى، لكن.. خرج التقرير الأمريكى حاملا رأيا آخر.. قال إن كلام التيار الدينى خارج السلطة شيء.. وكلامه وهو فيها، سيكون شيئا آخر تماما.. «طعم» السلطة يغير الطبائع.. والآراء والنفوس.. ومن يتكلم وهو فى قلب الناس يختلف عمن يتكلم وهو على رأسهم.
يرى التقرير أنه لو وصل التيار الديني، سواء إخوانا أو سلفيين إلى الحكم فى مصر، وعرفوا معنى السيطرة على الناس وإدارة شئون البلاد، فأغلب الظن أن موقفهم سيلين كثيرا عما يعلنونه الآن.. قبل وصولهم للسلطة.. سيكونون أكثر ليونة وتقبلا لاستمرار حالة التعاون بين مصر وواشنطن.. وربما لتواصل حالة السلام بين مصر وإسرائيل.. ومن يلين موقفه فى الكبيرة.. يسهل جدا، أن يلين موقفه فى صغائر الأمور.
والواقع أنه منذ اندلاع الثورات العربية، وزيادة احتمالية وصول التيار الدينى إلى الحكم فى مصر وغيرها من الدول العربية، صار الكثير من خبراء الغرب ينظرون إلى نموذج حزب العدالة والحرية التركى على أنه النموذج الأقرب للطريقة التى يمكن أن يستمر بها الحكم الإسلامى فى اتباع خط سير الحكم المدنى الذى سبقه، فى طريق مساندة الغرب والتعاون معه.. إلا أن أحدا لا يمكنه أن ينكر أن النموذج التركى صار يثير قلق واشنطن فى الفترة الأخيرة.. إلى الحد الذى وصل به أن يكون صداعا مستمرا فى رأسها.
باختصار، كان نظام الحكم فى الدول العربية «المعتدلة» مثل مصر وتونس، مستعدا لتجاهل الرأى العام فى الشارع، مقابل استمرار تعاونه مع واشنطن ضد إرادة شعبه.. أى أنه كان يضع استمرار تعاونه مع واشنطن فوق رضا شعبه.. ويتعامل مع هذا الأمر على أنه ضمانة استمراره فى الحكم.. الامر الذى لم يحدث بالطبع.. جاء النموذج التركى ليقدم تصورا جديدا.. يقوم على رضا الناس أولا قبل رضا اقوى دولة فى العالم عنه.
تتحرك السياسة الخارجية التركية بتوازن لم يحدث فى أية دولة اخرى فى الشرق الاوسط.. تتعامل بحسم مع امريكا واسرائيل، مؤكدة أن تعاونها معهم لابد أن تكون له حدود تتفق مع اتجاهات الشارع وميول الرأى العام فيه.. أى أن تكون «ديمقراطية» كما يطالب الغرب، حتى وإن كانت النتيجة على غير هواه!..
هل يمكن أن يتكرر فى مصر ما حدث فى تركيا؟ أن يصل إلى الحكم تيار دينى يستخدم اتجاهات الشارع الرافضة للتعاون مع أمريكا عند اللزوم، لتحقيق مكاسب سياسية على حسابها؟
يقول التقرير إن مصلحة أمريكا كما تراها إدارة أوباما الحالية، قد تكون فى وصول الإخوان إلى الحكم فى مصر وغيرها من الدول العربية، بشرط أن يوافق الإخوان على الحفاظ على الخطوط العريضة التى أرساها نظام مبارك للتعاون مع واشنطن بما يضمن مصالحها فى المنطقة، حتى لا تعانى واشنطن من فقدان الدعم التى كانت تحظى به فى مصر، كما فقدت من قبل الدعم الذى كانت تحصل عليه من تركيا.
باختصار، ترى إدارة أوباما أن مصلحتها ستخدم بشكل أفضل لو وصل مبارك جديد إلى الحكم، لكن وهو يرتدى زيا دينيا.. ويتحدث بلغة «الإسلام هو الحل»! هذا هو ما تراه أمريكا فى صالحها، فهل يراه الإخوان ثمنا مقبولا لوصولهم للحكم؟
سؤال ستجيب عنه الأيام.. أو السنوات القادمة.. ربما نتلقى إجابته بأسرع مما نتوقع لو فشل أوباما فى الفوز بفترة رئاسة ثانية، وهو أمر محتمل أكثر من اللازم، ليصل إلى الحكم رئيس جمهوري، يطبق سياسات حزبه التى تقوم على التعامل مع أنظمة الحكم فى دول الشرق الأوسط بحسم وعدوانية نذكرها من أيام بوش الابن.. وإن كانت سرعة التغييرات التى تجرى فى الدول العربية من الداخل، توحى بأن أحدا، بمن فيهم أقوى دولة فى العالم، لا يملك إلا أن يقف أمامها متفرجا.. فى انتظار النتائج