أصيب برصاصتين يوم جمعة «الغضب» الأولى وبثالثة يوم «موقعة الجمل» وسقط شهيداً برصاصتين أمام ماسبيرو حركة «كلنا أقباط» وهى الحركة التى ضمت فى عضويتها شباباً مسلمين ومسيحيين للمطالبة بحقوق كل المصريين خرج «مينا دانيال» ليبحث عن الحرية فى الميادين.. ولن يعود مرة أخرى، ذهب ليجلب الحرية.. العدالة.. الرحمة، لكنه لن يهتف بتلك الكلمات، لن يعترض طريق من يقمعون الحريات، لن يدافع عن نفسه ضد من اتهموه بتعطيل المصالح، لن يبتسم مرة أخرى فى وجه جلاديه، ولن يضطر كارهو الوطن لتلقينه وصلة تعذيب جديدة، لقد ترك لهم «مينا دانيال» الوطن الذى ضاق على شباب الثورة رغم رحابته.. غادر الحياة التى يطوقها عسكر الظلم وضباط الفساد وفلول جهنم، ذهب البطل الشاب إلى من تسع رحمته الجميع.. ولا يميز بين عباده، لقد أراد له أعداء الوطن الشر، لكن الله أراد له حرية غير منقوصة، حرره حتى من جسده.. أطلق العنان لروحه لتحلق حيث أراد لها صاحبها، الآن يا «مينا» آن للجسد الجريح أن يستريح.. الآن يا رفيق.. نزفك إلى أرض الملكوت.. شهيداً. غاب الوجه الملائكى عن ساحة النضال.. غاب عن جدران منزله الذى كانت ابتسامته تملؤه بالدفء، لن تضطر والدته لأن تحيطه بذراعيها بعد الآن، لن تتحجر الدموع فى عين والده فى لحظة وداع لأنه لن يخبره مجدداً بالنزول إلى الميدان، لن ينتظر أشقاؤه الثلاثة عودته لأحضانهم، ولن تعلن شقيقتاه ضيقهما من آثار معارك الحرية التى تترك آثارها على ملابسه دائما، ولن ينتظر زملائه فى شركة التوريدات الكهربائية أن يخبرهم عن حال البلد ومستقبله، ولن يبحث زملاؤه فى أكاديمية المقطم عن أخباره، «مينا» لن يحتفل مرة بذكرى ميلاده لأن القدر لن يضيف إلى سنوات عمره أرقاماً جديدة بعد عامه الخامس والعشرين. إن سنوات عمره القليلة تجعله يحتفظ بشباب دائم.. وجسد ضئيل كان يساعده دائماً على تصدر مشاهد المطالبة بالحرية، خرج فى الخامس والعشرين من يناير باحثاً عن الحرية والكرامة، اعتصم برفاق النضال فى ميدان الحرية، لم يغادر حلمه.. تشبث به إلى أن رحل الطاغية، وتنحى رأس الفساد ونائبه. توقع «مينا» أن يعيش مثل وطنه.. عمراً طويلاً بقدر الحرية التى نالها المصريون بعد ثورتهم، قرر أن يبدأ فى تكوين أسرة جديدة، اختار شريكة حياة من ميدان التحرير، أعلن خطبته، لكنه قرر التأكد أولا من تحقيق حلم الحرية، وصدق ظنه، ليعود مرة أخرى إلى ميادين الحرية بحثاً عن العدل الذى يريده للجميع. كان حضوره ملحوظاً فى كل أنشطة طليعة الشباب الثوري، كان سباقاً فى التطوع لمهام التيار الفكرى الذى ينتمى له، كان واحداً من الوجوه النشطة فى حركة «شباب من أجل العدالة والحرية» التى انضم لها قبل ثلاثة أعوام، وشارك فى مظاهراتها ضد الديكتاتور المخلوع على سلالم نقابة الصحفيين.. ومسيرات شبرا.. وتظاهر ضد قتلة الشهيد خالد سعيد فى الإسكندرية، كان مسيحى الديانة، لكن قلبه معلق بكل ما هو مصرى دون تمييز، يعرف شباب الكنيسة الارثوذكسية مدى شجاعته فى الحق.. منذ قاطع قيادة كنسية أثناء عظته وداع شهداء الوطن فى حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية.. لأنه يرفض الثناء على من كان رئيساً للجمهورية وقتها، وهو ما جعل القيادة الكنسية تصفه بالمندس، لكن شباب ديانته اعتبروا ما فعله شهادة حق يستحق عنها التقدير.. لذا رفعوه على الأعناق حين تقدم مظاهراتهم أمام كاتدرائية العباسية للتنديد بالحادث. أسس شهيد الوطن «مينا دانيال» حركة «كلنا أقباط» وهى الحركة التى ضمت فى عضويتها شباباً مسلمين ومسيحيين للمطالبة بحقوق كل المصريين، وكان لا يهتف لغير الوطن. كان يؤمن بالوطن قبل كل شيء، لذا خرج فى مسيرة شبرا دفاعاً عن كنائس الوطن، وحين بدأت حلقة القمع.. قرر أن يدافع عن قضيته، جعل من جسده النحيل درعاً يحمى الآخرين، كان شجاعاً لم يهب الموت فى كل معارك الحرية التى خاضها، تصدى للمعتدين بقدر تصديه لمن إرادوا إخماد الثورة فى أيامها الأولى، لقد أصيب من قبل فى جمعة الغضب الأولى برصاصتين فى يده تركتا جراحاً سطحية تثبت بطولته، وفى مساء اليوم التالى أصيب برصاصة ثالثة استقرت فى قدمه، فنقله الثوار إلى مستشفى قصر العيني.. وهناك أحس بأنه معرض للقبض عليه فقام شخص بنقله الى المستشفى الميدانى بالتحرير. يقول حسين البدرى صديقه المقرب، إنه ظل معتصماً فى الميدان ورفض الرجوع لمنزله وفى موقعة الجمل كان فى الصفوف الأمامية بجوار المتحف يدافع عن الميدان التحرير ضد بلطجية الحزب الوطنى طوال الليل، كان مشغولاً بالوطن بينما كانت أسرته تشعر بالقلق لما ينتظره، والمدهش أنه تم القبض عليه بعد تنحى مبارك، وتعرض للتعذيب، ليأتى المشهد الأخير أمام ماسبيرو، أصيب «مينا» بطلق ناري.. فاضطر للمرة الأول أن يعطى ظهره لجلاده.. لكنه عاجله برصاصة أخرى فى الظهر اخترقت كتفه اليمن.. وحمله البعض إلى مدخل إحدى العمارات ليلفظ أنفاسه الأخيرة.. وكانت وصلة من الراحة وحلقت بعدها روحه إلى مرتبة لا يدركها سوى الشهداء. كان مشهد الرحيل مأساوياً بالقدر الذى يصعب على الذاكرة المصرية نسيانه، مشهد لا تقوى أفلام المعارك على تقديمه بهذا المنظر، ولن يقوى أفضل نجوم هوليوود على تجسيده، ربما لأن منطق العقل لا يقبل أن يتحول البطل الذى ملأ الدنيا نضالاً مجرد جثة هامدة فى مدخل عمارة.. وفى ساحة الموت تتشابه الجثث.. تكتسى جميعها بملامح الغدر الذى أجهز عليها، تبتسم جميعها لمصير تعرف أن بيد من هو أرحم علينا من الأب والأم، فى حضرة الموت يتساوى «مينا وبلال» وكلاهما شهيد، قدم جسده قربانا لأجل حرية الوطن، اختاروا الرحيل فرادى ليبقى الوطن مجتمعاً.. على ثورته.. على شهدائه، رحلت أجسادهم لتتحرر أرواحهم ووطنهم.. رحلوا ليعيشوا طويلاً فى قلوبنا وتاريخ ثورتنا. رحل «مينا» ليمنحنا فرصة أخرى فى العثور على ما نتفق عليه.. الثورة، لذا هتف مودعوه « يللا يا مينا قول لبلال.. أصل الثورة صليب وهلال