ترأس البطريرك يوسف، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكييّن الكاثوليك، القداس الالهى، وذلك بمناسبة ذكرى يوبيله الكهنوتي الذهبي برفقة قدّس الأب الياس أغيا البولسي، وذلك في كاتدرائية سيدة النياح حارة الزيتون بسوريا. شارك مع غبطته في الليترجيّا الالهية أصحاب السيادة مطارنة سورية للروم الملكيين الكاثوليك بحضور رؤساء الطوائف المسيحية في دمشق وممثلين عنهم، ولفيف من كهنة الأبرشية الدمشقية وبحضور رسمي وشعبي غفير. وجاء في عظة صاحب الغبطة: المسيح قام! أيّها الأحبّاء، نبدأ بحمده تعالى أنّه أوصلنا إلى هذه الساعة ورافقنا إلى هذا اليوم بصبر ورفق وأناة مدّة خمسين عامًا، مذ طُفنا حول مذبح الربّ المقدّس في هذه الكاتدرائيّة عينها أنا وأخي الحبيبُ رفيق العمر والدرب حضرةُ الأب إلياس آغيا البولسيِّ، ووضعَ اليدَ على رأسنا سلفي السعيدُ الذكر البطريركُ مكسيموس الخامس حكيم لخدمة مذابح الجمعيّة البولسيّة. في مثل هذا اليوم بنوع خاصّ قد لا يتمالك المرء عن التطلّع إلى ما مضى من حياته ليرى ماذا عمل فيها وبها. إنّها أوّل حركة عفويّة طبيعيّة في مثل هذه المناسبة. وقد يرى في تطلّعه إلى ما مضى أعمالًا قد تكون أو قد تُعتبر صالحة جيّدة ربّما استطاع أن يفتخر بها أو بالحريّ جرّه الشرّير إلى أن يفتخر بها، إلّا أنّ الافتخار الحقيقيّ ليس بهذه الأعمال، إن حصلت، بل الافتخار الحقيقيّ هو بالحريّ بضعفنا وأوهاننا التي فيها ظهرت قوّة المسيح: "بكلّ سرور إذن أفتخر بالحريّ بأوهاني لتستقرّ عليّ قوّة المسيح. أجل إنّي أسرّ بالأوهان والإهانات والضيقات والاضطهادات والشدائد من أجل المسيح، لأنّي متى ضعفتُ فحينئذ أنا قويّ" (2كور12: 9-10)، صرخ الرسول بولس في يوم من الأيّام، وقد اضطرّه البعضُ إلى أن يصرّح بماذا يفتخر، بالرغم من أنّه هو الذي كان يستحقّ الثناء على ما عمل من أجل السيّد المسيح. نحن حقًّا لسنا سوى عبيد بطّالين، وبعضُ أعمال المحبّة التي عملناها في حياتنا كفعلة في حقل الربّ لا تتعدّى حبّة رمل في صحراء شاسعة. فإن كان لهذا اليوم هدف أو نفع فهو أن نتأمّل في الأعمال الحلوة التي صنعها الله إلينا، أن نتفكّر بالعطايا الغزيرة التي منّ بها علينا، أن نتمعّن في رحمته التي صنعها إلينا من دون قياس، في محبّته الواسعة، في غفرانه الشامل. جئنا بالتالي إلى هذا اليوبيل لنشكر الله على كلّ ما صنعه الله إلينا، على أشخاص وضعهم على طريقنا، على أحداث سمح بها في حياتنا، على ظروف ومناسبات هيّأها لنا، على أوقات وفّرها لنا فكنّا في ذلك كلّه سعداء ننشد مع صاحب المزامير: "بماذا نكافئ الربّ عن كلّ ما أحسن به إلينا؟". هللويا. وفي هذا اليوم نشكر الربّ يسوع أيضًا على أمانته لنا، على أنّه لم يتخلّ سحابةَ هذه السنوات كلّها عن العهد الذي قطعه لنا بأن يكون معنا إلى أبد الدهر، بالرغم من ضعفنا وسقطاتنا وخياناتنا لأنّه كما يؤكّد القدّيس بولس وإن كنّا نحن "لم نثبت على الأمانة فهو يبقى أمينًا لأنّه لا يقدر أن ينكر ذاته" (2تيم2: 17) مؤيّدًا بذلك قول صاحب المزامير: "إلى الأبد أحفظ رحمتي ويبقى عهدي أكيدًا [...] لا أقطع رحمتي ولا أخون أمانتي. لا أنقض عهدي ولا أغيّر ما خرج من شفتيّ. مرّة حلفت بقداستي ولا أكذب" (مز 88/89: 29-36). أجل نحتفل اليوم بأمانة الله لنا لأنّ إلى الأبد رحمته. هللويا. قد يتصوّر البعض أنّه لو استرجع سنواته الماضية لكان عاش حياة أفضل وأجمل وأنفع من التي عاشها. لكنّنا نعتقد أنّه مهما أضاف المرء أو زاد إلى حياته السالفة من جمال ونفع وخير فكنقطة الماء في أعلى المحيط لا تحرّك المركب ولا تهزّ البحّار ولن تؤثّر في كلّ حال في تقويم السيّد المسيح لنا أو تُحسّنَ نظرتَه إلينا. لذلك نقبل ماضيَنا كما عشناه، نقبل واقعنا كأناس يَخطأون ويعثرون ويضعفون ونقدّم هذا الواقع للربّ يسوع تائبين مستغفرين كما نقدّم له الأشياء الجميلة التي عشناها والأعمال الصالحة التي عملناها لأنّ الربّ يقبل عامل الحاديةَ عشرة كما يقبل عامل الأولى على ما نقرأ في الإنجيل. الأمر المهمّ الأساسيّ هو أن نحبّ السيّد بكلّيّتنا، بكلّ قلبنا ونفسنا وذهننا، وأن نذهب إليه وأن نصرخ إليه كما صرخ بطرس: "إلى من نذهب يا ربّ فإنّ كلام الحياة عندك؟"(يو 6: 68). لا شكّ أن هذه الصرخة قد انطبعت لا بل انحفرت في السيّد المسيح ورأى فيها الإنسان في أضعف ضعفه فقبله كما هو غيرَ ناظر إلى خطيئته وضعفه بل إلى شخص متعب جاء إليه، إلى شخص أحبّه من البداية وإنّما أتى لكي يخلّصه لا لكي يهلكه. لذلك لا نبكي الماضي في هذا اليوم بل نفرح فرح التائب المغفور له لأنّ الربّ قبلنا وخلّصنا ونحن بعد في خطيئتنا وضعفنا، كما يقول بولس، بل ننفي اليأس ونطفح بالرجاء ونؤكّد بدورنا ومن ناحيتنا أنْ لا شيءً يستطيع أن يفصِلنا عن محبّة المسيح. فاليوبيل نظرة إلى الأمام أكثر ممّا هو نظرة إلى الماضي "لأنّ الله الذي قال 'ليشرق من الظلمة نور' هو الذي أشرق في قلوبنا" (2كور4: 6) وحوّل الظلمة التي فيها إلى نور. فله الشكر. لقاء السامريّة بالسيّد المسيح في إنجيل اليوم يشبه اليوبيل الذي نحن فيه. اليوبيل محطّة نلتقي فيها بالسيّد المسيح نأتي إليها محمّلين بالعتيق وننطلق منها محمّلين بالجديد. كذلك البئرُ محطّةٌ التقى عندها الربّ يسوع بتلك المرأة السامريّة فتركت الإنسان العتيق ولبست الإنسان الجديد، تركت جرّتها التي كانت تملأها وتشرب منها مرّة بعد مرّة ولا ترتوي لتشرب من الماء الحيّ الجديد الذي يتدفّق من جوفها أنهارًا والذي لا يَعطش شاربُه أبدًا. في هذا اللقاء كشف يسوع للمرأة ماضيَها وحاضرَها، لكنّه لم يتوقّف عنده ولم يُعِره انتباهًا كبيرًا كما فعل اليهود بالزانية التي قدّموها له متوقّعين أن يَدينها، بل دعاها إلى أن تَنحى منحًى جديدًا فتحرّرت للحال، إذ شعرت بكِبَر هذا الرجل الذي يكلّمها كما لم يكلّمها رجل قطّ حتّى إنّها ظنّت لوهلة أنّه المسيح نفسُه. فانطلقت ناسية وتاركة جرّتها، ناسية وتاركة ماضيها، وراحت تعلن للناس جديد حياتها فانقلبوا هم أنفسهم من عتيقهم إلى جديدهم. هكذا نحن اليوم نترك جرّتنا عند الربّ يسوع بكلّ ما فيها من تعب ووجع وحزن وضيق وقلق وخوف ويأس وما إلى ذلك، بل نكسِرها تحت قدميه ليدوسها كما داس الموت ويحرّرَنا ويمسكَ بأيدينا وينهضَنا إلى حياة جديدة، وننطلقُ نظير السامريّة لنعلن للعالم ما صنع وما يصنع الربّ إلينا من إحسان و"أنّ الله روح والذين يعبدونه فبالروح والحقّ ينبغي أن يعبدوه" (يو4: 24). اليوم في حضرة السيّد المسيح القائم نشعر بل ندرك أنّنا بالرغم من ماضينا المليء بالسقطات ما زلنا واقفين، بالرغم من ماضينا المليء بالبشاعات ما زال فينا جمال من يسوع، بالرغم من عبوديّتنا ما زلنا أحرارًا. كلّ لقاء مع يسوع هو يوم قيامة فكم بالحريّ لقاءٌ في يوبيلٍ يعلن فيه الربّ قائلًا لنا: "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية وللعميان بالبَصر وأُطلقَ المرهقين أحرارًا وأعلنَ سنةَ نعمة للربّ" (لو4: 19). اليومَ يومُ نعمة واليوبيلُ هو حيث يسوع النعمةُ التي ظهرت مخلّصة جميع الناس (تي2: 11). فالشكر لله.