لم يدع الفقى البطولة فى رفضه زيارة إسرائيل، ولم يتناول موسى أزمة مكافأة نهاية الخدمة وأتى بشهود ليضمنوا ما يقوله. اتفقا على أن قيادات السودان لم يبذلوا جهدًا كبيرًا لمنع الانفصال، وتناولا القيادات العربية بقدر من الاختلاف. كواليس ردح الزعماء العرب فى لقاءات القمة تميز مذكرات موسى، الاحتفاء بالأصدقاء أعطى جوا حميميًا لمذكرات الفقى. فى وقت متقارب انتهيت من قراءة مذكرات كل من السيد عمرو موسى والدكتور مصطفى الفقى، ومن الطبيعى أن توجد قواسم مشتركة بين الاثنين لأن صاحبى المذكرات نجمان فى النخبة المصرية ولهما صلات عربية، وكلاهما لاعبان محترفان فى الخارجية والسياسة، ولكن أظن أن ما دفعنى إلى إجراء هذه المقارنة هو شىء آخر بعيد عن التقاطع بين مذكرات موسى والفقى، شىء لا علاقة له بالسياسة، ولكن له علاقة بشخصية كل من موسى والفقى وطريقة كتابة المذكرات. فى سابقة غريبة ألحق عمرو موسى فى الجزء الثانى من مذكراته (سنوات الجامعة العربية) شهادات من دبلوماسيين على بعض رواياته، ويبدو أن موسى لجأ إلى هذا الأسلوب بعد الهجوم على بعض ما قاله فى الجزء الأول من مذكراته، ولاشك أن موسى يعلم أن بعضًا مما قاله فى الجزء الثانى يستحق أن يأتى بشاهد أو بالأحرى ضامن. 1- فن التواضع فى البداية اعترف أن مذكرات كل منهما تحمل بعضا من روح صاحبها، يفتقد موسى إلى التواضع فى حياته، ومنذ الصفحة الأولى يصدمك بروحه المتعالية، يحكى أن أمين الجامعة العربية الأسبق عصمت عبد المجيد كان يرغب فى عام إضافى، ولكن مبارك رفض فأحس موسى بأن المنصب يتقرب منه، وهو بالطبع لا يطمع فى المنصب أو يريده، ويكمل أن مبارك طلب من أحد الدبلوماسيين عرض المنصب على موسى دون أن يقول الدبوماسى لعمرو إن مبارك رشحه، ورغم الممانعة التى ذكرها قبل صفحة، فإنه يوافق على تولى المنصب، وبالطبع يجب أن يفصح الراحل عصمت عبد المجيد برغتبه فى البقاء عامين فى الجامعة، لأن هذا الأمر يمثل اطار الصورة التى يرسمها عمرو لنفسه، يرفض ما يهرول الآخرون له. وناهيك عن المقدمة التى كتبها عمرو كسرد سريع لإنجازاته فى الجامعة العربية، ولا يوجد رأى لمعارضيه إلا فى موقفه من ملف السودان مع تجاهل تام لكل الانتقادات الحادة الأخرى، مثل تقاضيه شيكًا من السعودية بنص مليون دولار، وقيل إنها مكافأة نهاية الخدمة أو انتقادات لنفقات الجامعة أو مشكلته مع ملك الأردن. على الجانب الآخر ينقل لك الفقى فى مذكراته ومنذ الصفحات الأولى حيرته فى اختيار طريقة وعدم تركيزه فى مهنة واحدة، وينقل بأمانة تامة وتواضع إنسانى كل ما قاله معارضوه عنه مثل تقلب مواقفه السياسية وانقلابه على مبارك وغير ذلك من الانتقادات، وعلى الرغم من موقفه الوطنى برفض زيارة إسرائيل أيام مبارك، إلا أنه لا يدعى البطولة العنترية ولم يخف قلقه من غضب جمال مبارك على عدم سفره، وعندما يتحدث عن علاقته بالكاتب الكبير الراحل هيكل فى ظل عمله بالرئاسة لا يدعى الاستقلالية، ويؤكد أنه أخذ موافقة مبارك على هذه اللقاءات، ويذكر الفقى أن هيكل كان ينتقد السلطة وهو لا يستطيع أن يرد بالموافقة نظرا لطبيعة عمله فكان يكتفى بهز رأسه، فقال له هيكل: يا دكتور مصطفى التسجيل بقى صوت وصورة، وبالطبع لم يقل الفقى كل الحقائق فى مذكراته، ولكن ينطبق عليه ما قاله الأديب الراحل يوسف إدريس: أنا لا أقول كل الحقيقة ولكن كل ما أقوله حقيقة. 2- الحكام العرب فى كل من مذكرات عمرو موسى والفقى ستجد ذكرا لبعض الحكام العرب السابقين صدام، القذافى، مبارك، بل إنك ستجد تشابها فى رؤية كل منهما تجاه انفصال جنوب السودان، فهناك ميل إلى أن قادة السودان استسلموا لأمر الانفصال. ولكن مذكراتهما عن علاقتهما بالشخصيات مختلفة تماما وبطريقة مثيرة، مع عمرو موسى تشعر أنك أمام بعبع الرؤساء، فقد تكلم مع صدام بحدة بالغة لدرجة أن صدام حين قاطعه قائلا: يا دكتور عمرو، رد موسى: أنا مش دكتور، ولأن هذه الرواية يصعب بلعها، فقد أرفق موسى شهادة أحد الدبلوماسيين عليها. يتكرر الموقف مع القذافى، فمرة عتب القذافى على مصر مساندتها للسعودية ضده فى بعض القضايا، فقال لعمرو موسى: أنتم دائما مع السعودية هى عمله لكم عمل، فرد موسى: تقصد إيه وحاصر عمرو موسى القذافى حتى تهرب من الإجابة. فى المقابل يبدى الفقى تناولا موضوعيا مع صدام والقذافى فيذكر من خلال اللقاءات المزايا والعيوب، ومن الحكايات الطريفة عن جنون القذافى ما رواة الفقى عن عودة العلاقات بين مصر وليبيا وصبر مبارك على جموح القذافى، ففى البداية اشترط القذافى أن يكون اللقاء على الحدود المصرية الليبية، فأمر مبارك ببناء فيللا حيث جرى اللقاء الأول، ثم قال القذافى لمبارك: أنه لا يريد المجىء للقاهرة، فسأله مبارك عن السبب، فرد القذافى: لأن بها سفارة إسرائيل، فرد مبارك: ماشى نتقابل فى الأقصر أو أسوان أو الإسكندرية، ثم عاد القذافى وطلب أن يكون اللقاء فى القاهرة، فسأله مبارك: إشمعنى، فرد القذافى: لأن بها قبر عبد الناصر. يذكر الفقى لصدام موقفًا تجاه مصر، ففى أول حضور لمبارك لاجتماع قمة الجامعة العربية بعد عودة العلاقات، اقترح بعض الرؤساء والملوك ألا يدخل مبارك فورا للقاعة، فرفض صدام إهانة الرئيس المصرى وأصر على دخوله فورا. وفى كل الحالات ومع كل الشخصيات أظهر الفقى تعاطفا إنسانيا ولم يسىء لأحد الراحلين وحرص أن يعبر عن رأيه بأدب يحسب له، لأن الشجاعة فى غير موعدها تخصم من رصيد الإنسان، وبمناسبة الحديث عن التعاطف، فقد أظهر عمرو موسى قدرا من التعاطف وهو يتحدث عن أمير قطر، ولكن تلك قصة أخرى ستكتمل فصولها مع الجزء الثالث والأخير من مذكرات عمرو موسى، وفى المقابل لم يخف الفقى فى مذكراته أن عمرو موسى لم يساند ترشيحه لمنصب أمين العام للجامعة العربية، وهو الترشيح الذى رفضته قطر. 3- معلومات ووثائق وبالطبع لا تعنى ملاحظاتى أو بالأحرى انتقادتى لمذكرات عمرو موسى أنه لم يترك أثرا فى الجامعة العربية أو أن مذكراته غير مهمة أو تخلو من الأحداث الجسام فى الوطن العربى، فالمذكرات مهمة لكل باحث أو مهتم بالشأن العربى، ولمحبى الحكايات الساخنة، تحتوى المذكرات على وصلة الردح بين الملوك والرؤساء العرب فى إحدى جلسات القمة المغلقة، والمواجهة بين الرئيسين السابقين مبارك وعلى زين العابدين فى قضية الإصلاح السياسى فى الوطن العربى، وذلك ردا على المشروعات الأجنبية والأمريكية للوطن العربى، وهناك أيضا تفاصيل مهمة عن أزمات كل من لبنان والسودان وغيرها من القضايا العربية. ولكن مذكرات الفقى لا تنحصر فقط فى الشأن العربى فهى رحلة الزمان والمكان، وقد أعجبنى اختيار الفقى لكلمة الرواية عنوانا للمذكرات، لأنها بالفعل رواية كتبها الفقى بنفسه وتحمل دراما الحياة من لحظات فشل ونجاح، صعود وهبوط وتشابك العلاقات الإنسانية والمهنية.