من الصعب أن تجد لقاءات صحفية أو تليفزيونية لشريف عرفة، لديه مسافة يحرص عليها فى علاقته ب«الميديا»، تلك قناعته التى لايعلنها ولكن من الممكن أن تشى بها ندرة إطلالته على تلك النوافذ التى اعتبرها البعض فرصة لترويج إبداع زائف أو تصفية حسابات صغيرة مع بعض من يعتبرهم منافسين، شريف لا يجد نفسه أو يعبر عن نفسه سوى على الشريط السينمائى وهكذا لا يجد نفسه سوى فقط فى الاستوديو، كائن يتنفس سينما يصحو على سينما ينام على سينما، يملك رؤية وهدفا أبعد من مجرد تقديم فيلم جيد، لديه هم حقيقى ومسئولية أبعد وأعمق لصناعة السينما، مدرك أن السينما تتقدم من خلال مشروعات كُبرى تتجاوز الخاص إلى العام، تقفز فوق سور الفنان الذى يقدم فيلماً يتمنى قطعا أن يصبح ناجحاً، ولكنه يدرك أن الأهم من نجاح فيلمه الذى يحمل توقيعه، أن يضمن تدفق صناعة السينما وانتعاشها وتقدمها، فهو الذى يتيح له الاستمرار لتقديم فيلمه التالى، هزيمة السينما تعنى بالنسبة له إعلان نهاية للجميع، لا يعيش المخرج فى «كومباوند» يحوى فقط أفلامه وجوائزه وشهادات تفوقه، ولكن السينما مدينة مترامية الأطراف، يعش تحت سمائها الملايين، رغم تعدد الأنماط واختلاف المشارب، إلا أن المصير واحد، وهو ما أدركه مبكراً جداً، منذ أن فتح عينيه على الدنيا، فاكتشف أنه لا يرى أمامه سوى السينما، ودعونا لا نطيل أكثر ونبدأ مباشرةً الحوار. فى حى المنيل وعلى نهر النيل كان يطل منزل والده المخرج الكبير سعد عرفة، على سينما صيفية اسمها «الجزيرة»، وذلك قبل أن تتعرض للهدم مثل أربع دور سينما أخرى لاقت نفس المصير تباعا فى نفس الحى، قلت لشريف يقولون مثلا «فلان ولد وفى فمه ملعقة من ذهب» وأنا أقول أنك ولدت وكانت ملعقتك الذهبية هى سينما مجانية أمام البيت؟ قال شريف كنت أشاهدها أحياناً من البلكونة، وأذهب كثيرا إلى سينما «الجزيرة » وأقطع تذكرة، مثل الجميع، لأن الصوت كان بعيدا ومشوشاً فأذهب أول يوم عرض وأشوف الحواديت وأفهم الحوار، أنت تعرف طبعاً أنه كان يعرض يوميا 3 أفلام، مصرى وأجنبى وكرتون فى «بروجرام» واحد، أقصد أن الجرعة كانت ضخمة ولم أكتف فقط بسينما «الجزيرة»، هناك على بعد مائة متر أو أكثر قليلا سينمات أخرى مثل «الروضة» و«جرين»، أجد نفسى دائما بين جدرانها. ■ أغلقوا أغلب هذه السينمات حاليا؟ - مع الأسف، أشعر وكأنهم اقتلعوا جزءاً من تاريخى وذكريات طفولتى، كانت سينما الجزيرة جميلة جدا ولا أنسى حكايتى معها، والسينما كصناعة لا تنتعش إلا مع زيادة عدد دور العرض، بينما نحن نفعل العكس تماما، نغلق ونبيع ما لدينا من نوافذ العرض، نضرب بعنف وقسوة فيها حتى نشارك فى هدمها. ■ قلت له أتذكر موقفاً طريفاً لك، قلت لى قبل نحو ربع قرن أنك كنت تخاف من القطط؟ - ضحك شريف.. وقال لا أخاف منهم، ولكن فقط أعمل لهم ألف حساب، فأنا أخشى من «الخربشة»، ليس الأمر متعلقا كما تظن، ب«فوبيا» القطط، ولكن أنا فقط احذر منهم خاصة عندما لا تتوفر الإضاءة الكافية وأنا طالع السلم، من الممكن أن اكتشف أننى صدمت قطة أو لامست ذيلها مثلا بدون قصد منى وأكيد سيحدث فى هذه الحالة ما لا تحمد عقباه. ■ عشقك للسينما هل له علاقة بعائلتك الأب والأخ كلاهما مخرجان؟ - بالتأكيد لأننى نشأت فى بيئة فنية حبى نبع من كون إن أبويا مخرج لكن انجذابى للسينما تم عن طريق السينما «كانت قدام بيتى».. كنت لا أذهب إلى التصوير فى بداية حياتى، لم يكن ذلك مسموحا لى، أبى لم يكن يسمح، لكن عندما كبرت اختلف الأمر، عندما قررت أن أصبح مخرجا بدأت بدرى وأنا عندى 16 سنة. ■ آخر مرحلة فى الثانوية العامة ألم يكن فى أحلامك أن تدخل كلية الطب أو الهندسة أو أى كلية أخرى؟ - ولا كلية منهم لم أفكر أبدا فى شىء محدد، ولكن كان ابن خالتى ضابطاً بحرياً فأحببت البحرية وأبناء خالتى أيضا منهم مهندس وطبيب فكان حلم أمى أن أصبح مثلهم، ربما إعجاب بمن هم أكبر، أنا كان تفكيرى مختلفاً رغم سنى الصغير وإنى أقول مثلا عايز أبقى مخرج أبقى بقلد أبويا، فكان لازم أعرف ما هى طبيعة وظيفة المخرج وعلشان أعرفها هذه قصة كبيرة.. مهنة المخرج غير مهنة التمثيل أو التصوير، لها تفاصيل أخرى كما أنها صعبة جدا إنك تشكل وتصنع عملاً من مجرد كلام مكتوب وتحيله إلى صورة وأشخاص من لحم ودم، ولهذا عندما فهمت هذه المهنة أحببتها أكثر فلم اسع لتقليد أحد وأصبحت مستقلا حتى فى حبى للسينما، لم أكن أحاكى حتى أبى. ■ كيف اكتشفت ذلك؟ - عندما عرفت تفاصيل المهنة وقربت منها وحضرت تصوير بعض الأفلام، فى هذه اللحظة شعرت أن هنا حياتى. ■ متى سمح لك الأستاذ سعد عرفة بحضور التصوير؟ - حضرت تصوير أنا وعمرو أخى الصغير، ولكن ليس بالمعنى الحرفى للكلمة، كنا نزور أبى فى أحيان قليلة، داخل أماكن التصوير، لأن والدى كانت متحفظا جدا حتى أنه كان لا يسمح لأحد من الوسط الفنى أن يدخل بيتنا كنا عائلة تستطيع أن تقول عنها منغلقة جدا. ■ ألم يكن يزوركم فنانون؟ - الفنانة مريم فخر الدين فقط هى صديقة العائلة، لكننا لا نختلط أبدا بالوسط الفني، وكانت أمى تحديدا لا تريد لأبنائها احتراف مهنة غير مأمونة العواقب، عندما علمت أننى أريد دخول معهد السينما، وأدرس إخراج، غضبت وأعلنت فى كل جنبات المنزل ثورة عارمة، حتى أنها هددت بترك البيت إذا أقدمت على تلك الخطوة التى كانت تراها مجنونة ولم أتراجع عن موقفى، إلا أنها ازدادت إصرارا على موقفها وشرعت فى تنفيذ تهديدها، لأنها ترى أن هذه المهنة أصحابها لديهم معاناة دائما بعضها مادى والآخر اجتماعى، ولم تشأ تكرار الأزمة مع ابنها البكر، نظراً لمرور مصر بفترات صعبة أيام الستينيات، لدرجة إن فريد شوقى بسبب تعثر السينما، لعب بطولة أفلام تركية وبعض الفنانين سافروا بيروت، للعمل هناك، كانت المسألة صعبة جدا، ونحن عشنا فترات قاسية فى حياتنا بشكل عام، وهذا كان حال أغلب السينمائيين فى مصر. فكانت أمى لا تريد أن تكرر معى نفس المآسى مرة أخرى، ففكرت فى خطة إنى أجيب مجموع قليل فى الثانوية العامة، أنجح بالعافية علشان أدخل المجال اللى أحبه، ولا يصبح أمامى إذا أردت أن أحمل مؤهلاً عالياً سوى أن ألتحق بمعهد السينما، وفى هذه الحالة ربما توافق أمى، لكن للأسف حصلت على الدرجات النهائية فى الفيزياء والرياضيات.. كنت بحب الفيزياء جدا لأن مدرسها يشبه كثيرا الفنان فؤاد المهندس، وكان عبقرياً وطريقة شرحه للمادة مختلف جدا عن الطرق التقليدية، لدرجة إنه كان يقف فوق الترابيزة أحيانا لتوضيح واستكمال الشرح .. لم أر أستاذ مثله فى حياتى، ولهذا كان مجموعى كبيراً، وللأسف.. يدخلنى كلية الهندسة. لكننى قلت لوالدى أنا لا أستطيع أن أدخل الهندسة لأن ميولى مختلفة تماما، لكن ممكن أدخل كلية التجارة. اخترت كلية التجارة، لأنها سهلة واستطيع العمل بجانب الدراسة، وأيامى لم يكن هناك نسبة حضور يجب أن يحققها الطالب، فكانت الظروف ملائمة، ودخلت التجارة وبدأت اشتغل مع والدى «كلاكيت» لكننى لم أحتمل كثيرا التعامل الدائم مع الطباشير، حيث كان يكتب الكلاكيت وقتها على تلك اللوحة السوداء، وبعدها اشتغلت مساعد إنتاج، وأيامنا كانت المساعدين ناس كبار فى العمر ليس مثل الآن فكنت أبدو بجوارهم مجرد تلميذ صغير، وأكملت العمل مساعد إنتاج من بعد الثانوية حتى انتقلت للعمل كمساعد إخراج. ■ دخلت كلية التجارة لأن لها علاقة ما بالسينما؟ - نعم لها علاقة بالاقتصاديات والإنتاج وأفادتنى جدا.. أنهيت موضوع الحسابات فى أول سنة والحمد لله، لدى قدرة كبيرة على التحصيل وازددت مهارة خلال عملى فى السينما، أيضا تعلمت أن أقرأ بسرعة كتب كبيرة، وأفادتنى هذه الحصيلة فى مشوارى. وفى آخر سنوات دراستى بكلية التجارة قلت لأبى، أنا لازم أتفرغ للعمل فى السينما لأننى اقتنعت الآن أكثر من ذى قبل، أنى لا أصلح سوى للسينما، فقال ساخراً الناس هتقول ابن سعد عرفة لم ينجح فى كلية التجارة وفشل.. ولهذا ألحقه بمعهد السينما، واشترط عليَ إذا لم أنجح فى كلية التجارة لن أدخل معهد السينما، ووافقت مضطراً. كان لدى مشكلة فى الكلية، عندى امتحان بعد بكرة وأنا شايل الموضوع من دماغى تماما، فقررت إنى أفتح الكتب وأذاكرها جميعا قبل الامتحان بيومين فقط، وبالفعل نجحت وبتقدير جيد. بعدها قال لى أبى، ماذا ستقول لوالدتك؟ قلت له لن نخبرها وظل الأمر سراً بينى وبينه. ورغم موافقة أبى إلا إننى ذهبت لمعهد السينما بمفردى للالتحاق دون علمه وطبعا أخفيت الخبر تماما عن أمى، ونجحت فى اختبارات الدخول، رجعت من الامتحان تشاجر معى وعنفنى لأنه كان أيامها لا أحد ينجح فى معهد السينما بدون واسطة. ■ لم يلاحظوا اسم والدك وهو مخرج كبير ومعروف؟ فى الآخر لاحظوا بعد الامتحان التحريرى، وقت المقابلة، عندما قدمت نفسى وقلت اسمى ثلاثى عرفونى، لكن كونك ابن مخرج سينمائى كبير ربما يصبح الأمر سهلاً وربما العكس يصبح ضدى إن أبويا مخرج وأنا داخل معهد السينما سلاح ذو حدين. ■ هل تتذكر أسماء لجنة الاختبارات؟ - كنت سعيد الحظ إنى لحقت أساتذة كبار فى معهد السينما، مثل محمود الشريف والمخرج محمد بسيونى. ■ نعم أتذكر الأستاذ بسيونى لأن طريقته فى التدريس كانت أقرب إلى معلم اللغة العربية الذى يريدك أن تحفظ القاعدة؟ - بالضبط وكان رتيبا جدا، ولكنه مفيد، ودكتور مصطفى محمد على، أستاذ التصوير، أنا كنت سعيداً جدا. أيضا لأن الذى علمنى الإخراج «محمود مرسى» وظلت علاقتى به جيدة جدا وكان يستشهد بمشروع تخرجى للطلبة الذين جاءوا بعدى بدفعة، فى هذه الفترة عملت مع أبويا ثم فتح لى باباً آخر بعد معاناة طويلة وهو أن أعمل مع «دكتور هشام أبو النصر». ■ قبل أن نُكمل هذا الجزء كنت حكيت لى إنك فى البداية كانت من مهام عملك فى الإنتاج إنك تحضر نحو مثلا 10 كيلو لحمة للعمال وأشياء من هذا القبيل؟ - نعم لأننى كنت أعمل بالإنتاج إلى جانب الإخراج، دائما أحب عملى أيا كان وأفضل أن استيقظ مبكرا وفى هذا الوقت كان عمرى 17 سنة، كنت أحيانا أصحى الساعة 3 صباحا لأحضر لهم الفطار، وكان فيه مكان اسمه «كلاوى»، هى منطقة بعد سفاجا بعشرين كيلو، بالقرب من مجمع ألومنيوم، كان العمال فيه هم نفسهم الجزار والبقال، لكن فى بيوتهم، فكان لازم تروح تشترى منهم طلباتك قبل أن يذهبوا إلى عملهم بالمصانع، فكنت أذهب إليهم فى منازلهم، قبل الفجر اشترى منهم الخضار واللحمة وأعطيها للطباخ يعمل الأكل الفطار والغداء لفريق العمل. ■ كل هذه التفاصيل تعلمت منها الجانب الاقتصادى والإنتاجى؟ - نعم والالتزام والمسئولية وكانت هى سمة هذا الجيل، التزام مسئولية شغل.. مش رايح تهزر أو تتدلع.. الحكاية مش سهلة وكانت معاملة والدى لى صعبة جدا لأن الجيل القديم تلك كانت طريقتهم وهذا هو الصح حتى تشتد وتصبح مسئولاً، وأنا مساعد «اسكريبت» كنت بتعامل مثل «الواد بلية الميكانيكى» نعم أنا كنت «بلية» صبى الاسطى، تتحمل تكمل، مش حتتحمل مش حتكمل، مفيش فيها واسطة. ■ وماذا عن سعد عرفة كنت أيضا بالنسبة له «الواد بلية»؟ طبعا، «بلية ونص»، أتذكر كنا مرة مسافرين للسويس ومفيش عربيات فلم أركب معه سيارته، بل تسطحت على ظهر عربية نصف نقل. ■ لأن ليس لك مكان فى سيارة والدك؟ - كان فيه مكان، لكن لناس أهم منى، مثل المصور أو مساعد المخرج، للناس الكبيرة، فكنت أتسطح على عربية نصف نقل وأنا مش زعلان، عادى جدا أنك تبقى بالضبط فى مكانتك الحقيقية بين فريق العمل. ■ لأنك وقتها لست ابن المخرج؟ - نعم هو الأستاذ، وكنت بعمل كده بحب وقناعة إن ده هو الصح، بدون غضب أو شكوى لأى أحد، استمريت كمساعد لمدة 9 سنوات، وكنت لا انتقل للمرحلة التى تليها إلا مع مخرج آخر غير والدى. ■ يعنى بدأت مع والدك «كلاكيت» والنقلة تبقى مع مخرج آخر؟ - نعم وعلشان أبقى مثلا مساعد أول مع والدى، لازم أنا كمان اقتنع أننى مساعد أول وهذا لا يحدث إلا إذا عملت مع مخرج آخر كمساعد أول، هذه القواعد لم أفكر فيها إلا بعد مرور الزمن، كنت أراها مسألة بديهية جداً. ■ اشتغلت مع أسماء كبيرة فى بدايتك كمساعد؟ الإجابة على السؤال والمزيد من الأسئلة فى الحوار كاملا على موقع جريدة «الفجر».