عندما يطلب الشورى.. من يوحى إليه الثائر الحق.. نبينا الهادي الذي وصف الله قوله بأنه "وما ينطق عن الهوى ".. أي أن كل كلمة يقولها هي وحي من عند الله السميع البصير الذي هو بكل شيء عليم.. أي أن النبي ينطق بكلمة الله، ومن أصدق من الله حديثا.. أخذ النبي خاصية لم تتح لأحد من قبله صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى في كتابه الكريم:"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم".. لنعلم أن حديثه هو الحديث الحق وقوله وقضاؤه هو القول الفصل وما هو بالهزل.. وليس لأحد أن يعقب عليه أبدا.
ولأن المقام هنا لا يتسع للمزيد فقد آثرنا أن نشير إلى لمحات من تمكين الله لنبيه في الأرض، فماذا تنتظرون بعد هذا؟ هل هناك رأي بعد رأي رسول الله؟ بل هل هو في حاجة لأن يسأل أو يستشير أحدا أو يهتدي برأي أحد وهو الهدى بعينه؟ لكن النبي لم يكن يستخدم حقوقه هذه وكان يتلطف مع صحابته، ويأنس بقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر".. لذلك كان يشاور من حوله دوما في مختلف الأمور. بل كان يقدم رأي من حوله على رأيه لو اتفقت عليه الأغلبية. ونذكر في هذا المقام ما ورد عن النبي حين أراد الخروج إلى غزوة بدر، وكيف رد عليه صحابته كما وردت في "تاريخ الطبري" وقف النبي وقال: "أشيروا عليَّ أيها الناس". فأجابه المقداد بن عمرو: امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فاستبشر النبي خيرًا.. فهل اكتفي نبينا بهذا؟ لا، بل توجه إلى الأنصار يطلب رأيهم، فنطق سعد بن معاذ قائلا: امض بنا يا رسول الله، فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، إنا لصُدقٌ في القتال، صُبُرٌ في الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك. فزاد فرح النبي واستبشاره، فانطلق بأصحابه ليقاتل أعداء الإسلام في غزوة بدر الكبرى. هذا لنعلم أن الثائر الحق لا يستأثر برأي أبدا ولا يتخذ قرارا بمفرده، بل يعمل على تأليف القلوب حول كلمة سواء، بأن يستمع إلى كل رأي، ويقدر كل كلمة، حتى تجتمع حوله القلوب والعقول.. بمعنى أكثر واقعية أن الثائر الحق لا يجب أن يكون دكتاتورا يحجر على آراء الآخرين، وعليه ألا يظن أنه الصواب وغيره على خطأ.. وليعلم أن الباب الكبير لكسب أي معركة هو أن يجعل الآخرين يختارون معه الطريق، لا أن يختاره هو ثم يفرض عليهم أن يسلكوها معه.