«لن تصمت أجراس كنائسنا ولن تنطفئ أنوار الميلاد فى بلادنا، رغماً عن كل آلامنا وأحزاننا ومعاناتنا»، هذه الجملة كتبها المطران عطالله حنا، رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس، معبراً عن موقف المسيحيين الفلسطينيين من قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. المطران حنا، ليس مجرد رجل دين مسيحى، ولكنه رمز فلسطينى، وإنسانى، ودليل حى على هوية القدس، مهد الديانات السماوية الثلاث، وصوت صارخ فى العالم بخطورة تهويد المدينة المقدسة التى مشى المسيح على ترابها وانطلق من أرضها نبى الإسلام إلى السموات فى زيارته الربانية. ولد حنا، فى الرامة وهى قرية فلسطينية قريبة من مدينة الجليل، عام 1965، ودرس اليونانية فى القدس، وأكمل دراسته فى اليونان، وحصل على ماجيستير اللاهوت من جامعة تسالونيكى عام 1991، وبعد عودته للمدينة المقدسة تم تعيينه راهباً فى كنيسة القيامة، حيث أصبح ناشطاً فى الحياة العامة إذ إنه المدير والمتحدث العربى باسم البطريركية كما قام بالتدريس فى المدارس المحلية، كما أنه واحد من القادة الطبيعيين فى منطقته، يلجأ إليه المسلمون والمسيحيون على السواء لاستشارته فى مشكلاتهم اليومية والاجتماعية، خصوصاً أنه متواضع بما يليق برجل وهب حياته لخدمة الناس على اختلاف عقائدهم ويستمع للجميع صغيراً وكبيراً فقيراً وغنياً ببساطة ومحبة. وحاضر المطران حنا، عن المسيحية فى كلية المعلمين العرب فى حيفا، وحصل على دكتوراه فخرية فى اللاهوت من المعهد اللاهوتى فى صوفيا، بلغاريا، كما حصل على لقب أرشمندريت. ويمتد نشاط المطران حنا، إلى آفاق أوسع، إذ إنه من أعضاء سفينة السلام، التى تترأسها آسيا قاسم، أمين عام المنتدى الاجتماعى للثقافة العربية بلبنان، رئيسة الجمعية الخيرية لرعاية المسنين، وهى سفينة تلف العالم لتنشر أفكار السلام، وزار أعضاء السفينة مصر فى مايو الماضى، ومنهم المطران حنا، الذى كان شديد الحرص على إلقاء كلمات تحث على السلام وكانت كلماته فى اللقاءات أشبه بهتافات وزار الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، فى مشيخة الأزهر، بمرافقة آسيا قاسم، حيث أقنعها بوضع إيشارب على رأسها دليلا على احترامه الأزهر وشيخه وتقاليد الإسلام. تعود أهمية شخص مثل المطران حنا إلى أنه ينسف محاولات إسرائيل إلى تصوير القدس كمدينة مقدسة يهودية، حيث يلفت نظر مسيحيى العالم على اختلاف طوائفهم إلى أن المسيحية أحد مكونات هوية المدينة التى شهدت لحظات مهمة لتاريخ المسيح، حيث شهدت تكوين الكنيسة الأولى. دعا حنا فى أوائل 2010، لوضع وثيقة تهدف لمخاطبة الغرب خصوصاً الكنائس الغربية للدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية، وتعتبر الوثيقة الصادرة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، مناشدة ورسالة من مسيحيى الأراضى المقدسة، إلى أشقائهم من مسيحيى العالم بضرورة التحرك لحماية المقدسات فى فلسطين وتحديداً فى مدينة القدس، لما تمثله من مكانة دينية خاصة لدى الطوائف المسيحية بالعالم. وطالب المطران من خلال الوثيقة المجتمع الدولى، بوقفة حقّ تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطينى من ظُلم وتشريد ومعاناة وتمييز عُنصريّ على مدى 6 عقود، وقال فى الوثيقة إن الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين خطيئة ضد الله والإنسان لا تغتفر إلا بالسلام العادل وتحقيق المساواة. وصرخة المطران حنا تشبه أحجار الانتفاضة التى قادها أطفال فلسطين عام 1987، والتى عجزت أمامها الترسانة العسكرية الإسرائيلية، والتى كشفت أمام العالم كله، وحشية الإسرائيليين، وكشفت عن أنهم مجرد مغتصبين للأرض وأنهم مجرد احتلال قاس وغاشم وظالم. يقول حنا، فى رسالة وجهها إلى العالم وفى القلب مسيحيية حول الكرة الأرضية: فى عيد الميلاد ستبقى أعيادنا مقصورة على الطابع الروحى والكنسى والإنسانى والوطنى تأكيداً على رفضنا لما يحدث فى أرضنا المقدسة من ظلم وقمع واضطهاد لإنساننا الفلسطينى، وأن فعاليات إضاءة شجرة عيد الميلاد التى نشهدها فى الآونة الأخيرة فى عدد من المدن والبلدات الفلسطينية هى رسالة من رحاب فلسطين الأرض المقدسة، بأننا متشبثون بانتمائنا وعراقة وجودنا فى هذا الوطن الذى هو وطننا ولن تتمكن أى قوة فى هذا العالم من اقتلاعنا وتهميشنا وشطب حقوقنا. ودعا المطران الأرثوذكسى إلى اقتصار احتفالات إضاءة شجرة عيد الميلاد، التى ترمز للنور الذى انبعث من السيدة مريم العذراء ليضىء العالم، ستقتصر على كلمات وترانيم دينية ورسالة روحية وإنسانية ووطنية، وهو ما جرى بالفعل فى بيرزيت وقبلها فى القدس وفى غيرها من الأماكن التى أضيئت فيها شجرة الميلاد، حيث تم تحويل الحدث لمناسبة للتعبير عن انتماء المسيحيين لفلسطين ورفضهم الإعلان الأمريكى المشؤوم وتضامناً مع أسر شهداء الانتفاضة الجديدة ورفضاً لسياسات الاحتلال الإسرائيلى الغاشمة بحق الفلسطينيين. يعتبر المطران، حنا، أن :»شجرة الميلاد بأنوارها ورمزيتها والمشاركة الإسلامية المسيحية فى إضاءتها رسالة نطلقها من رحاب أرضنا المقدسة بأننا كفلسطينيين أقوياء بوحدتنا ولن تتمكن قوى الشر العالمية من النيل من وحدتنا مهما سعوا لبث سمومهم وتحريضهم وتطاولهم وإساءاتهم التى نعرف من يغذيها ويقف خلفها». يؤكد المطران رسالة مهمة فى هذا التوقيت الذى تتعرض فيه المدينة المقدسة لسلب هويتها وأجزاء من جسدها الطاهر، بقوله إن فلسطين «وطن الميلاد وأرضه والمسيحية فى فلسطين ليست بضاعة مستوردة من الغرب، وليست من مخلفات حملات الفرنجة أو غيرها من الحملات الاستعمارية التى ألمت ببلادنا، نحن مسيحيون ونرفض تسمية نصارى، نحن مسيحيون فلسطينيون ولن نتخلى عن انتمائنا للمسيحية المشرقية التى بزغ نورها من هذه الأرض المقدسة كما أننا لن نتخلى عن انتمائنا الوطنى وتشبثنا بهويتنا الفلسطينية ودفاعنا عن عدالة قضية شعبنا التى هى قضية تجمعنا جميعا كأبناء للشعب الفلسطينى الواحد مسيحيين ومسلمين». ويعتبر حنا، أن إعلان ترامب الأخير هو إهانة للمسيحيين والمسلمين، و«يندرج فى إطار سياسة استهدفت مدينتنا المقدسة منذ سنوات فأولئك الذين يستهدفون مقدساتنا وأوقافنا الإسلامية هم ذاتهم الذين يستهدفون أوقافنا المسيحية وهم الذين خططوا وفتحوا الطريق أمام الإعلان الأمريكى المشؤوم الذى لن يزيدنا إلا ثباتاً وصموداً وتمسكاً بانتمائنا للقدس ودفاعنا عن هويتها الحقيقية ومقدساتها وكرامة أبنائها». ووجه المطران رسالة للمسيحيين الفلسطينيين الذين يستعدون للاحتفال بعيد الميلاد حسب التقويم الغربى فى 25 ديسمبر أو الشرقى فى 7 يناير، بأن يكونوا أقوياء بإيمانهم وألا يخافوا أو يترددوا فى الدفاع عن أصالة وجودهم وتراثهم الروحى والإنسانى والوطنى، ألا يضعفوا وألا يخافوا أمام المتآمرين والمتخاذلين وأمام الساعين لتصفية وجودهم وسرقة أوقافهم لأنهم يستهدفون كل الشعب الفلسطينى وعدالة قضيته، التى تعتبر قضية إنسان رازح تحت الاحتلال ويحق له الانتفاض ورفض الظلم والمناداة بتحقق العدالة والحرية والكرامة فى هذه الأرض المقدسة. ويتحول المطران حنا إلى صوت ثورى بامتياز حين يوجه رسالة إلى الفلسطينيين جميعاً: «لا تتقوقعوا كما يريد الأعداء لنا أن نكون، ولا تنعزلوا عن هموم وهواجس وتطلعات شعبكم كما تخطط قوى الشر الصهيونية والماسونية الشريرة المتآمرة على الحضور المسيحى فى بلادنا، والتى تخطط لتصفية قضيتنا الوطنية وهى قضية الشعب الفلسطينى الواحد مسيحيين ومسلمين، كونوا ملحاً وخميرة لهذه الأرض وأحبوا بعضكم لأن المحبة هى قوة لنا لكى ندافع عن وجودنا وتاريخنا وتراثنا ولكى نكون صوتاً منادياً بالحق والعدالة والدفاع عن شعبنا الفلسطينى المظلوم، ولن تصمت أجراس كنائسنا ولن تنطفئ أنوار ميلاد سيدنا وفادينا ولن يكون المسيحيون فى هذه الديار إلا دعاة خير وسلام ومحبة وعطاء». يصر المطران حنا على تنبيه المسيحيين الفلسطينيين إلى خطورة استبعادهم من المشهد أول التعامل معهم كطائفة ويقول: «لن نكون أقلية فى وطننا ولكن نحن مكون أساسى من مكونات شعبنا، ولن نحزم أمتعتنا ونغادر وطننا كما يريد لنا الأعداء، سنبقى فى وطننا كى نقرع أجراس الحرية ولكى ننير أنوار الميلاد عسى أن تضيء القلوب والعقول والضمائر لكى تعود لرشدها ولن نتخلى عن انتمائنا لفلسطين أرضاً وقضية وشعباً وهوية وتراثاً وانتماء، والمسرحية الكوميدية التى شاهدناها قبل أيام فى البيت الأبيض لن تغير من هوية القدسالمحتلة المحاصرة والمتألمة والمعذبة والتى لن يعود إليها سلامها إلا بعودتها لأبنائها وشعبها كى تكون عاصمة لفلسطين وعاصمة للكرامة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة».