■ زراعة الموالح فتحت أسواق تصدير للخارج بإنتاج يصل ثمنه ل50 ألف جنيه للفدان ■ حالة الانفلات الأمنى عقب ثورة يناير أعادت انتشار السلاح بين الصبية فى شوارع المدينة ■ الجهود الأمنية تنجح فى ضبط 364 قطعة آلية و40 جرينوف و4 قطع آربى جى ومضاد للطائرات وتدمير 278 دشمة محصنة أساطير الثأر فى الصعيد، لم تغب.. ومازال الدم ينزف، ليخلق قصصًا مأساوية لضحايا تفقد حياتها وتقطف أرواحها.. مشهد لم نكن نتخيله لعادات لفظها الزمن، لكنها لم تغادر بلادنا، لأنها تتغذى على ثلاثى الفقر والجهل والتعصب.. فى مركز «البدارى» أسطورة الثأر والسلاح والدم فى أسيوط، مازال يعشش فيها هذا الشيطان «الثأر»، وهو يطل كل يوم ليحصد روحا جديدة، ينزع جسد شاب، ويفقد أمًا ابنها أو يضيع طفلاً فى نار اليتم، أو تترمل امرأة لفقدها زوجها.. قصص كثيرة وتفاصيل مأساوية، تتكلم عنها الأرقام التى تحصى ما يقرب من مائة شخص راحوا ضحية الثأر فى البدارى خلال هذا العام.. الأرقام المفزعة فى مركز لا يتجاوز عدد سكانه ربع مليون نسمة، للأسف ليست بجديدة، ففى عام 2012، حصد الثأر 17 قتيلا فى واقعة واحدة، فى واقعة بين عائلتين، نيران الثأر مشتعلة بينهم منذ سنين، وكادت أن تنطفئ، لكنها مع عودة انتشار الأسلحة التى صاحبت حالة الانفلات الأمنى عقب ثورة 25 يناير، وعاد تهريبها عبر الصحراء سواء من ليبيا أو من الجنوب عبر دروب جبال البحر الأحمر التى تقترب كثيرا من البدارى من منطقة قرية «العقايل»، عاد صوت الرصاص من جديد. وتطبيقا للمثل الذى يحذر من «وضع الكبريت بجوار النار»، كان الانفلات الأمنى، وانتشار الأسلحة المهربة للبدارى، السبب فى عودة وتأجيج الصراعات الثأرية مرة أخرى للمكان الذى يقبع بالقرب من الجبل الشرقى، ويحد النيل من ضفته بعد أن خفت سطوتها فى السنوات التى سبقت «يناير». عاد سماع الطلقات النارية فى المساء، ظهرت مشاهد كريهة صبية وأطفال صغيرة تحمل البنادق الآلية وتسير بها فى طرقات القرى والجسور الرابطة بين النجوع أنواع جديدة من الجريمة وغالبيتها، مرتبطة بقضايا القتل والثأر، وعادت البدارى لسيرتها الأولى كمركز لقضايا الدم. وحتى لجان المصالحات فى القضايا الثأرية التى تتدخل فى الخلافات الثأرية شبه توقفت مع تصاعد وعودة النزاعات والتعصبات القبلية، لا أحد يقبل الحلول العرفية، بتقديم «الكفن» أو تقبل «الدية». 1- زراعة الذهب الأحمر منذ ما يقرب من 20 عامًا، أجرى أحد مراكز الأبحاث الإسبانية المهتم بالتربة ونوعية الزراعات التى تصلح بها، بحثا عن الأراضى فى البدارى، وكان المفاجأة تحمل خبراً مبهجا للمزارعين هناك.. الأرض التى رويت بالدم الأحمر، تعد الأفضل والأجود لزراعة «الذهب الأحمر»، إنه «الرمان»، أكثر الفاكهة أناقة وجمالاً، تنافس فى جمالها الداخل، روعة «زهرة الخشخاش» التى كانت ملهمة لأشهر رسامى الأرض فإن خوج ليرسمها فى لوحاته الفريدة.. لكن الرمان الثمرة الطيبة، جمالها ليس فى الخارج، بل بالداخل تحمل لونا بنفسجياً مبهجا، حباته مرصوصة فى إبداع ربانى بغلاف الثمرة الأبيض، لطعم مرسل من أساطير قديمة، وفائدة احتار العلماء فى حصرها.. ما توصل إليه المركز البحثى الإسبانى، كان دافعا لتجربة زراعة الرمان فى تلك البقعة.. فزراعة الرمان ليست بعيدة عن أسيوط، فيها اشتهر «الرمان المنفلوطي» التى ارتبط بها أغنية الفلكور المصرى «أدحرج وأجرى يا رمان وتعال على حجري». «تكحرت» الرمان من منفلوط للبدارى، سنوات قليلة وبدأت تنتشر زراعته.. ومع جودة ثمار، دفعت المصدرين أن يفتحوا له أسواقا خارجية، فى بلاد عدة من فى أوروبا (إسبانيا وفرنسا)، وعربية وخليجية (السعودية والإمارات)، وكان سببا فى توافره فى الأسواق المحلية، خاصة أن إنتاجية الفدان هناك تراوحت ما بين 20 – 25 طنًا، ليمنح صاحبه دخلا يصل إلى 50 ألف جنيه فى المتوسط. تسببت حالة الرواج فى زراعة الرمان والموالح الأخرى (البرتقال واليوسفى) قبل سنوات الثورة فى حالة سكينة فى البدارى بعد أن انتشر فيها الزراعة بشكل كبير لتصل إلى 15 ألف فدان فى المنطقة بينها وبين مركز «ساحل سليم» الملاصق لها على أطراف ضفة النيل الشرقية. هدأت أصوات الأسلحة قليلا، لانشغال المزارعين بقطف ثمار «ذهبهم الأحمر» لدرجة أن البدارى بدأت تتراجع سمعتها فى جرائم الثأر لتفوح منها نكهة الرمان، وتعود لسيرتها الأولى فى أن أول مكان على الأرض بدأت فيها الحضارة قبل 7 آلاف سنة، تحديدا فى منطقة «ديرتاسا»، كما أثبت حفريات الجيولوجيين، بأنه هذا المكان يعد الأقدم فى ظهور الحضارة البشرية، لسنوات ما قبل التاريخ. 2- عودة بحور الدم قبل حلول عام 2011، نشطت فى البدارى لجان المصالحات فى القضايا الثأرية ونجحت فى أن تخفيف نيران متأججة بين عائلات هناك، لتعيش فوقها المدينة المعروفة بجرائم الثأر إلى حالة انتعاش اقتصادى. لكن لم يدم الهدوء كثيرًا، عاود «شيطان الثأر» ليطل بقبحه مرة أخرى، خاصة مع حالة الانفلات التى حدثت وتسببت فى تراكم الأسلحة المهربة عبر الحدود، لتبديل خيراته من إنتاج ثمار الخير التى تصدر لدول العالم، ليستحل تجار الموت الرواج لترويج بضاعة الموت، مستغلين قرب المركز من الجيوب الجبلية مع جبال البحر الأحمر لتهريب صناديق الأسلحة المتطورة والذخائر، لدرجة أن السلاح انتشر وتحول الصبية هناك من حمل شنط وكراريس المدرسة إلى حمل الأسلحة. وتحول نسبة كبيرة من عائلات المركز إلى زبائن مستمرين لتجار الأسلحة وتحول مجموعات من شباب هناك لتشكيل «عصابات إجرامية» خارجة عن القانون تحترف قطع الطرق وتهريب المخدرات، وبدأت المنطقة تأوى أفرادًا آخرين من الهاربين من أحكام قضائية. ولعل أرقام الجهات الأمنية فى تتبع ومحاربة السلاح المهرب تدل على ذلك على بيانات مفزعة، وترشد على ضخامة السلاح المنتشر، ففى آخر إحصاء ضبطت الأجهزة الأمنية فى محافظة أسيوط ما يزيد على 364 قطع سلاح، 40 قطعة من الجرينوف «المتعدد» واثنين من سلاح «آر بى جي» وهو سلاح لمواجهة المدرعات، و2 من سلاح «م.ط» وهو السلاح الذى يستهدف الطائرات، ويصل سعره إلى ما يقرب من نصف مليون جنيه للقطعة الواحدة. الأجهزة الأمنية فى أسيوط قامت بهدم 28 «دشمة» كان يختبئ بها الخارجون عن القانون، والذين استغلوا الجزر النيلية، والجبال الوعرة القريبة من المركز للاختباء بها مع انتشار حالة الانفلات الأمنى. ولكن مع عودة الحالة الأمنية للاستقرار بدأت قيادات الأمن برئاسة اللواء عبدالباسط دنقل مساعد الوزير لوسط الصعيد واللواء جمال عبدالبارى مساعد الوزير للأمن العام من وضع خطط أمنية التى أشرف عليها اللواء أسعد الذكيرى مدير المباحث الجنائية بأسيوط والعميد دكتور منتصر عويض رئيس مباحث مديرية أمن أسيوط للحد من ظاهرة انتشار إطلاق الأعيرة النارية ومكافحة الجريمة بشتى أنواعها مع مساعدة رجال المصالحات لغلق ملفات الثأر وحفظ اسم وتاريخ المركز والعمل على الحد من جرائم القتل الثأرية التى عادت تفوح مرة أخرى مع انتشار السلاح. ومع الجهود الأمنية فى الحد من انتشار السلاح، بدأت تعود مرة ثانية جهود لجان المصالحات فى القضايا الثأرية، وهو ما يلقى عليه جمال الدرس عضو لجان مصالحات فى محافظة أسيوط، بقوله «مركز البدارى رغم سمعة المركز بالعالم، المشهورة بتصدير الرمان إليها، إلا أن أبناء المركز يقضون عامًا من البطالة باستثناء ثلاثة شهور، يحصدون ويستزرعون محصولهم الشهير والمنتشر بحدائق المركز سواء أشجار الرمان أو البرتقال واليوسفى وبعض المزروعات من الخضروات دون إنشاء مشاريع تستوعب شباب المركز، بعد أن تزايد فيه رواج تجار الأسلحة وسماسرة الموت أثناء حالة الفوضى بعد ثورة يناير واقتحام مركز الشرطة وسرقة الأسلحة حتى أصبح السلاح فى أيدى الصبية، هو ما يخلق لديها شعوراً عدوانيا تسبب فى إراقة الدماء بين العائلات مع ظهور جهالة الصراعات الثأرية بأن القتيل هو ابن المعركة رغم وجود نزاعات ثأرية يكون فيها القتيل ضحية خطأ أقاربه أثناء المشاجرات مع ظهور أسلحة متطورة كانت طلقاتها تملأ سماء المدينة». ويضيف عضو لجنة المصالحات: قيام قيادات الأمن من استهداف المركز بحالة من الشدة وتحول ضباط المباحث الجنائية إلى خلية نحل برئاسة العقيد محمد عصامى الذى كانت جهوده فى مركز «ديروط» فى محاربة انتشار الأسلحة، دفعت قيادات الداخلية لنقله للعمل بالبدارى للعمل على السيطرة على السلاح بها. وبالفعل نجحت هذه الجهود فى الحد من ظهور السلاح بالبدارى والنزاعات والعمل على تطويق الثأرية حتى لا تعود وتستفحل مرة أخرى، والعمل على منع انتشار إطلاق الأعيرة النارية التى كانت اعتاد سمعها فى سماء المركز، وقيام بهدم «الدشم» التى أقامها المتصارعون لاستغلالها فى إطلاق الأعيرة النارية، وضبط مئات قطع السلاح، وهو ما أفسح الطريق تحرك كل رجال الخير لمواجهة النزاعات الثأرية التى تلتهم أموال وخيرات عائلات المركز، من تصديرهم محاصيلهم التى تباع بالعملة الصعبة، ولها أسواق خارجية تنظرها دون عناء لجودتها. وفى هذا الشأن، يشير أحمد سيد على محمود عضو مصالحات مركز البدارى إلى أن «السياسة الأمنية المتبعة من قبل الأمن ساعدت لجان المصالحات على إقناع المتصارعين وبدء عمل جاد لتقريب وجهات النظر بين العائلات لوقف سيل الدماء، ونجحت اللجنة من إتمام مصالحة بين عائلات «الغلايبى» و»التوم»، والتى استمرت سنوات من الصراع، بالإضافة لنجاح المصالحات من إتمام صلح عائلتى «الكتيبات» و»رحيم» ويجرى التوقيع النهائى لصلح عائلتى «إبرهيم « و»الديبة». محمد عبده البدراوى أمين حزب الريادة بمركز البدارى يشير إلى وجود أزمة تواجه شباب البدارى، متمثلة فى وجود حالة فراغ وبطالة،وعدم العمل على استغلال عوائد الرمان فى تنفيذ مشروعات تستوعب طاقات الشباب فى المركز، وهو ما دفع النائب نعمان فتحى نعمان تقديم مذكرة لرئيس الوزراء ووزير الصناعة لتوصيل المرافق للمدينة الصناعية والعمل على تشييد مدينة صناعية غذائية، تمكن من الاستغلال الأمثل للمحاصيل هناك، وإمكانية تصنيعها قبل التصدير، كعصائر، وغيرها. ويضيف «البدراوى» غير أن هيئة التنمية الصناعية، تتجاهل مطالب أهالى البدارى لتوسعة العمل بالمدينة الصناعة بالمركز، وتشغيل الشباب الذى يعمل فقط ،بشكل موسمى فى موسم جنى الثمار، ويظل باقى العام بلا عمل، رغم قدرتهم على العطاء بدلا من استغلالهم من قبل تجار المخدرات الذين يستغلون حالة البطالة فى ترويج المخدرات المهربة. ويؤكد عبده البدراوى أن المدينة الصناعية، توفر ما بين 10 و 15 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، لكنها متوقفة، بسبب عدم توصيل المرافق التى تحتاج فقط إلى مبلغ لا يتجاوز 40 مليون جنيه، وبعدها يمكن أن تتحول إلى مدينة صناعية غذائية متكاملة، سواء مصانع أدوية أو عصائر أو بلاستيك أو «البرتيك» وتستفيد من منتج زراعات تصل إلى 20 ألف فدان رمان ومانجو وفواكه متنوعة. وهى النقطة التى يبرزها هشام محروس غلاب أحد أبناء المركز الذى يوضح أن البدارى، تنتج سنويا آلاف الأطنان من الرمان بأنواعه المختلفة الإيطالى والفرنسى والعربى، ويمتاز بجودة عالية، وهو ما أهلها أن تحصل على شهادة جودة عالمية بعد نجاح الاختبارات التى قام بها مركز «أيه جى كيو» الاسبانى، ويضيف إنشاء المدينة الصناعية سوف يدفع الشباب للعمل فيها بدلا من استعراض الأسلحة والتى لا ينتج عنها سوى الخراب والدم والقتل وتجدد الصراعات الثأرية بين العائلات لدرجة أنها حولت معيشة بعضهم إلى «مطاريد» فى الدروب الجبلية الوعرة والجزر النيلية. موضحا أنه يتمنى أن تتكرر تجربة عائلته التى عاشت سنوات صعبة من الصراع الثأرى، والذى تسبب فى وقف تجارتهم ومزارعهم ومع انتهائها تحول مجهود أبنائها إلى التوسع فى تجارتهم وزراعتهم، وهو ما يطمح فيه أن تخرج به البدارى كلها من مدينة يحكى عنها بالثأر والسلاح، لموطن لزراعة «الذهب الأحمر».